صعدة برس-متابعات -
امين اليافعي
في حديثٍ أجري مؤخراً مع إحدى الصحف العربية التي تصدر من لندن، قال السفير الأمريكي بصنعاء جيرالد فيرستاين: 'يمكنني القول إن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب اليوم هو بنفس ما كان في الماضي إن لم يكن أفضل'. ثم يعود في موضع آخر ليؤكد ذلك: 'أستطيع التأكيد أن التعاون حالياً هو كما كان في أحسن حالاته في الماضي'.
من جانبه، كان كبير مستشاري (أوباما) لشؤون مكافحة الإرهاب السيد جون برينان قد سبق وأن أكد مثل هذا الكلام، حيث قال في شهر سبتمبر من العام الماضي: 'استطيع اليوم أن أقول أن التعاون مع اليمن في شؤون مكافحة الإرهاب هو في أفضل حالاته طوال فترة عملي في منصبي'.
جاءت هذه التصريحات بعد شهور من سيطرة تنظيم 'أنصار الشريعة'، واجهة تنظيم القاعدة في اليمن كما وصفه السيد فيرستاين في حواره مع ذات الصحيفة، على عدة مناطق في الجنوب، وما زال التنظيم يوسع من عملياته باضطراد مخيف حتى اللحظة، كما أن المناطق مازالت تسقط بيده تباعاً في الفترة الزمنية الواقعة بين تصريحي المسئولين الأمريكيين.
برينان وفيرستاين، خبيران أمريكيان في شئون مكافحة الإرهاب، سبق لكل منهما العمل والأشراف على ملفات مكافحة الإرهاب في أشد مناطق العالم توتراً (أفغانستان وباكستان)، وقد تم استقدام فيرستاين من إسلام أباد إلى صنعاء (خصيصاً) فور تصنيف الولايات المتحدة لليمن بأنه بات المنطقة الأكثر تهديداً لأمنها بدلاً من أفغانستان وباكستان على خلفية حادثة ديترويت التي كان بطلها الطالب النيجيري عمر فاروق عبد المطّلب (والذي نقلته السلطات الفيدرالية الأمريكية إلى مكان مجهول عقب محاكمته، بحسب إفادة موقع 'سي إن إن العربية' على الانترنت، ولا ندري عن الهدف من وراء التحفظ عليه في مكانٍ مجهولٍ، فحتى سجناء جوانتامو، كان مكانهم معلوم للعالم أجمعش).
بعد هذا الإعلان، تدفقت الوفود الأمريكية إلى اليمن، تدفق السياسيون والخبراء والمدربون وعملاء السي آي أيه والإعلاميون.. ازدادت المساعدات المادية والمعنوية، كما لم تتوقف الطائرات (بدون طيار) عن شن هجماتها على مواقع متفرقة في البلاد حتى بلغت حسب تقرير لـ'مكتب الصحافة الاستقصائية' بلندن ـ صدر مؤخراً ـ 26-44 غارة أمريكية، نتج عنها 516 قتيل، بينهم 104 من المدنيين، وهي الغارات التي وصفتها صحيفة 'الغارديان' البريطانية بـ'الظلم السماوي' التي توزع الأحكام من أعالي السماء والتي يُساء اليوم استخدامها من خلال زيف ادعاءات من يقومون بإرسال تلك الطائرات، بحسب الجارديان.
ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف تصريحات المسئولين الأمريكيين عن الإشارة إلى التعاون 'الممتاز' مع النظام اليمني في مجال مكافحة الإرهاب، وعن التقدم الكبير الذي أُحرز في هذا المجال حتى بات الوضع أفضل بكثير من ذي قبل...
لكن، في حقيقة الأمر، ما هو موجود على الأرض، مختلف تماما، 'أنصار الشريعة' مستمرون في السيطرة على المناطق، ويتوسعون كل يوم في أماكن جديدة، والنظام اليمني، لم يتعاون ـ مؤخراً ـ البتة (فضلاً عن تعاونه 'الممتاز')، بل كان له فضل كبير في تسهيل المهمة للتنظيم عندما انسحبت قواته بطريقة مشبوهة تاركة له كل عدّتها وعتادها التي يستخدمها اليوم في إكمال مهمة السيطرة على مناطق الجنوب.
الغريب، أنه رغم كل ما حدث ويحدث، ما زال الأمريكيون يصرّون على ترديد الأسطوانة نفسها فيما يخص مستوى التعاون مع النظام اليمني، بأنه بات أفضل حالاً، وأكثر تقدما في تحقيق أهدافه، كما يصرّون بشدة على بقاء أقارب الرئيس الذي يديرون الأجهزة المسئولة عن مكافحة الإرهاب في مناصبهم رغم التسهيلات الكبيرة التي قدموها لأنصار الشريعة ورغم المطالبات الواسعة بإقالتهم منذ بداية الثورة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بقوة، وبالنظر إلى ما هو موجود على الأرض، هل تسهيل النظام اليمني لتنظيم 'أنصار الشريعة' بالسيطرة على المدن يندرج ضمن مستوى 'التعاون الممتاز' بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل التقدم الذي يحققه هذا التنظيم في الواقع يُعتبر أيضاً تقدماً في تحقيق الأهداف الأمريكية؟.
ما لفت انتباهي، وزاد من حيرتي أكثر في حديث السفير الأمريكي للصحيفة العربية هو طريقته في الحديث عن تنظيم 'أنصار الشريعة'، فهو يتحدث عن إستراتيجيتهم، والطريقة والكيفية التي سيتوسعون بها، والمناطق التي سيسعون للسيطرة عليها، وكأن هذا التنظيم قد أعلن سلفاً، وأمام الملأ، عن خططه القادمة.
فوق هذا، كان في نبرة خطابه ما يشبه الحميمة وهو يتحدث عن التنظيم (الإرهابي) مقارنة بنبرة الخطاب التي وجه بها حديثه إلى أطراف أخرى، كالتدخلات الإيرانية مثلاً في الشأن اليمني التي قال أنها تبذل جهداً أكثر شراسة لزعزعة الأوضاع ومنع نجاح عملية الانتقال السياسية. ومع أنه لا مجال للمقارنة من الناحية العملية والواقعية بين الآثار السلبية الملموسة والمترتبة على تدخلات الطرفين، عدا أن إيران كدولة إقليمية كبيرة من الطبيعي أن تكون لها مصالحها وحساباتها الإقليمية، كما أنها، وإلى اللحظة، تحاول أن تعقد تحالفاتها مع أطراف لها وجود شرعي على الأرض، وهذه الأطراف، لا يمكن أن تكون، في أي حال من الأحوال، كالتنظيمات الإرهابية، وهو هنا يستخدم التدخلات الإيرانية كفزاعة لا أكثر للتغطية على أمور ومآرب أخرى..
ومع ذلك، لم نجد في نبرة خطابه عند حديثه سواء عن تنظيم أنصار الشريعة أو تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ما يوحي بالشدة والحزم والجدّية الذي كان ينبغي أن يرتقي، على الأقل، إلى مستوى الشدة في نبرة الخطاب الذي وُجّه للأطراف الأخرى. بل واصل حديثه عن التنظيم بكل أريحيّة وبرود أعصاب، حتى ولكأنه لا توجد هناك مدن مدمرة ومستباحة بكاملها وصارت أثرا بعد عين، ومدن أخرى مهددة أن تلحق بها.. ولكأنه لا يوجد عشرات آلاف من النازحين يعيشون في ظروف غاية في المأساوية عدا عن الآثار المادية والمعنوية والدمار الجسدي والنفسي المترتب عن أزمة النزوح والذي سيحمله النازح معه طيلة حياته، وهو ينمو باضطراد مع مُضي الوقت في مخيمات النزوح.
كل هذه الأشياء، لا تهم السيد فيرستاين، وربما هي أمور غير ذات معنى، فطريقته في تقييم الكوارث التي تستند إلى مشاريع عابرة للدول تختلف تماماً عن طريقة تقييم السكان المحليين وعن التكاليف الباهضة التي يدفعها هؤلاء نظير أشياء لا علاقة لهم بها غير أنهم وُجِدوا في بلد ذات موقع استراتيجي لا تضع مشاريع القوى العظمى (المتصارعة) في الحسبان مصالحهم البسيطة والفقيرة.. فضلاً عن أن السفير ظل طيلة حديثه وكأنه يسوق لفكرة تدعو الناس إلى تقبل كل هذا الكوارث بصدرٍ رحبٍ، والتعود على التعايش معها بكل طمأنينة وراحة بال، وكذلك التعود على التعايش مع تنظيم القاعدة حتى يفرج الله الكرب عن النظام اليمني كي يستعيد عافيته بعد وعكة الانشقاقات والانقسامات؛ وهو أمر قد يمتد لسنوات.
السيد فيرستاين شغل منصب السفير في باكستان في الفترة الواقعة بين 2008 إلى 2010 ، وخلال فترة عمله هذه، قامت الولايات المتحدة بتنفيذ كثير من العمليات (السياسية والعسكرية والمخابراتية) في إطار ما تطلق عليه 'الحرب على الإرهاب'، وهو بالتأكيد، وبحكم منصبه الرفيع، أشرف على تنفيذ كثير من هذه العمليات؛ وهي العمليات التي جعلت باكستان 'قاب قوسين أو أدنى من كارثة قد تكون نتائجها مأساوية' على حد وصف المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي في مقال له كتبه بمناسبة مرور الذكرى العاشرة على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقد تساءل فيه 'بعد سبتمبر.. هل كانت الحرب خيارنا الوحيد؟'... أو كما وصفها المؤرخ العسكري البريطاني وأحد المتخصصين في الشؤون الباكستانية أناتول ليفين بالعمليات التي ستؤدي إلى 'انهيار الدولة الباكستانية سريعاً وظهور كل الكوارث التي تستتبع ذلك'.
هل تبدو مهمة السيد فيرستاين في اليمن هي استكمالاً لتلك المهمة التي كان قد بدأها في باكستان، خصوصاً ونحن نرى كيف تم زعزعة الاستقرار والسلم الأهلي في مناطق القبائل الباكستانية وبنفس الطريقة التي تجري عليها الأمور في مناطق الجنوب اليوم، وإن كانت الأخيرة تتم بشكل أشد فظاعة وأكثر عنفاً وأكبر حجماً من حيث التدمير والفوضىوربما كانت هذه الفوضى هي الفرصة الثمينة التي تنتظرها أمريكا لتوفر لها مبررأ كافياً كي تستلقي وتتمدد بوارجها وأساطيلها على السواحل والجزر اليمنية المطلة على 'باب المندب' دون أن يأتي ما ينغص عليها.
في نهاية مقاله آنف الذكر، يصل نعوم تشومسكي، وبعد استعراض سريع لحجم الدمار والكوارث التي خلفتها حرب أمريكا على الإرهاب في آسيا الوسطى والغربية، فخراب ودمار في العراق، وبالكاد تستطيع أفغانستان توفير سبل الحياة، وباكستان باتت قاب قوسين أو أدنى من كارثة قد تكون نتائجها مأساوية(وإذا أضفنا إليهم اليمن والصومال)... يصل إلى استنتاج مفاده: 'أن أكثر الوقائع بديهية وبدائية عن هذا العقد تدعونا إلى أفكار وتأملات قاتمة حين نستعرض الحادي عشر من سبتمبر وتبِعاته، وما تحمله للمستقبل'.
فإذا كان هذا عن أمريكا، شرطي العالم، وإمبراطورية القوة، فكيف بنا نحن الذين لا حول لنا ولا قوة؟!! وما الذي سيلحقه بنا، وسيقودنا إليه هذا الجنون الأمريكي جرياً وراء إستراتيجيات مدمرة ومعارك مستقبلية متخيلة وحروب استباقية وتخرصات وأوهام وضعها مفكرو اليمين المتطرف ومشاريع تمهد لإعادة تشكيل المنطقة وفق منهج الفوضى الخلاقة الأثير؟.
"القدس" العربي