|
|
|
صعدة برس - وكالات - تعقد عالمنا المعاصر في كل شيء، حتى في ناتج الحروب، فلم يعد بنفس الوضوح في كثير من الأحوال، بخاصة في هذا القرن الحالي، ولعل نموذج الحربين اللتين شنتهما الولايات المتحدة على كل من أفغانستان والعراق في بدايات القرن أكبر دليل على ذلك، فقد استغرقت الأولى فترة أشهر قليلة، أما الأخيرة فكانت سريعة للغاية، ونجحت الولايات المتحدة في احتلال البلدين لتخرج بعد قرابة عقدين من الزمان من أفغانستان، وتسلمها لـ”طالبان” التي دخلت الحرب للقضاء عليها، ثم انسحبت جزئياً من العراق، لكنها سلمتها لخصمها الإيراني ولميليشيات مسلحة في مشهد لا يمكن وصفه إلا بأنه عبثي وفاقد للمنطق.
ويبدو أن هذه السمة أصبحت أكثر وضوحاً في ساحات صراع الشرق الأوسط بشكل أو آخر، وعلى الرغم من عدم إمكانية الحسم بأن مصير الحرب الأوكرانية سيكون كذلك، فإنه ربما نبدأ من أنه على مدى أغلب أشهر هذه الحرب، تبلور الخطاب السياسي والإعلامي الغربي، بخاصة بعد مرور الأسابيع القليلة الأولى، وتأكد وجود قدر لا يستهان به من قدرة المقاومة الأوكرانية التي عززها دعم غربي وأميركي قوي، على أن أهداف روسيا من الحرب لم وربما لن تتحقق، وأنه سيتم استنزاف موسكو وتركيعها اقتصادياً، ومن ثم نشأت روايتان متناقضتان بشأن كل ما يحدث، ولعبت واشنطن ولندن دوراً قيادياً بهذا الصدد، والآن مع تأكد أن روسيا تحقق تقدماً عسكرياً ملحوظاً في شرق وجنوب أوكرانيا، وأن قدرة الإمدادات الغربية على منع ذلك تتراجع بشكل ملحوظ أيضاً، فإن كثيراً من الأبعاد تستحق أن تطرح حالياً.
نهاية الحرب
على الرغم من إصرار السردية الغربية على أن أهداف موسكو في البداية كانت إخضاع كل أوكرانيا وإسقاط حكومتها، فإن التصريحات الروسية بهذا الصدد غامضة وغير كافية للبناء عليها، صحيح صدرت تصريحات تدعو لإطاحة زيلينسكي، لكن لم تتسم بالاستمرارية ولا حتى الوضوح، ويبدو ثمة تناقض لا يمكن تجاهله بين ادعاءات موسكو بالروابط التاريخية بين البلدين، وتصور البعض أن الروس كانوا متوهمين أن الشعب الأوكراني سينقسم بشدة دعماً للتدخل الروسي، وبين الدخول في هذه الحرب بمعدلات نيران عالية بشكل تراوح بين منطقة وأخرى يدعم أكثر من سردية أن هناك احتمالاً أيضاً بأن الضربات التي جرى توظيفها في الغرب والشمال كانت بهدف إضعاف المقاومة الأوكرانية، وتسهيل المهمة نسبياً في الشرق والجنوب، أي إقليم دونباس، حيث مصالح ومطامع روسيا الفعلية.
ولا يتناقض هذا مع احتمال صحة بعض التقارير الغربية حول الاختراقات الاستخباراتية التي كلفت موسكو كثيراً من الخسائر المادية والمعنوية مثل قتل عدد من قادتها العسكريين، وإن كانت بعض التقارير تتحدث حالياً عن تصفيتهم بأيد روسية لمعارضتهم نهج استراتيجية أو تكتيكات الحرب، أو لفشلهم في المراحل الأولى من القتال. وفي جميع الأحوال هناك صور تكشف خسائر روسية ليست قليلة، وإن كان الأرجح أن خسائر أوكرانيا حتى الآن ربما تكون هائلة.
السؤال الرئيس، ماذا سيحدث مع اقتراب سيطرة روسيا على دونباس التي يزداد ترجيحها؟، هل ستكتفى موسكو وتعلن استعدادها للتفاوض، وهل ستقبل كييف بهذا؟ وفي هذه الحالة فإن ناتج الترتيبات سيكون على الأرجح لصالح موسكو وخصماً من رصيد الغرب، ولصالح تكريس فشل للرئيس الأوكراني ستتبلور نتائجه ربما بسرعة كبيرة. والاحتمال الثاني أن ترفض أوكرانيا هذا وتعلن حرب استنزاف ضد روسيا، قد تشكل إرهاقاً لها، لكنها قد تشكل أيضاً كارثة لأوكرانيا على الأجلين المتوسط والطويل. قد تؤثر بقوة في استقرارها، بخاصة أنها قد تدفع موسكو إلى مستويات أعلى من التدمير العسكري والاقتصادي في البلاد، وسيكون لديها حجة أن كييف رفضت السلام وستتعزز فكرة أن زيلينسكي يخاطر ببلاده خدمة للغرب الذي لم ينقذه في نهاية الأمر.
وفي السيناريو الأخير (أي حرب استنزاف)، قد يزيد الطين بلة أن يلجأ طرفا النزاع إلى المرتزقة، وهو السيناريو الذي طرح في مراحل سابقة، ولا توجد معلومات متكاملة حول حجمه الراهن وخطط استخدامه، وناتج هذا الاحتمال وخيم على المدنيين وسيكون أعلى مراحل انعدام الرشد في هذه الحرب.
وأخطر ما في هذه الحرب أن تعتبر روسيا السيطرة على دونباس مرحلة في إخضاع أوكرانيا، وتواصل التحرك غرباً، أو تتجه لهذا إذا لما تستجب كييف للتفاوض بعد السيطرة على الشرق، وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال يغيب عنه المنطق السليم تماماً، فإن أخطر ما فيه أنه يعزز فكرة أن روسيا تشكل خطراً على كل أوروبا التي ستزداد تماسكاً، وتتكرس المخاوف من احتمال اتساع هذه الحرب، وهو احتمال سيعني زيادة مخاطر توسع هذه الحرب.
ويبقى احتمال تروج له الحكومة الأوكرانية وجهات غربية حول تأخر سيطرة روسيا على الشرق، بل تحدثت مصادر بريطانية عن أن الحرب قد تستغرق سنوات، وهو ما يبدو احتمالاً بعيداً، لكنه إذا حدث سيعني مخاطر زيادة خسائر الجانبين، وتحول موسكو لمستويات تدميرية أعلى، كما سيعني معاناة متواصلة قد تصل إلى انهيارات في الأوضاع الأوكرانية.
خلط الأوراق والتباس الصراع
الأمر الثاني أن جميع الأوراق مختلطة على أصعدة عديدة، ولعل نموذج تركيا أبرز نماذج هذا الخلط، فهذه الدولة التي تجيد التحركات الميكافيلية، اتخذت عدداً من القرارات المتناقضة، فقد حظرت الطيران الروسي، لكنها لم تقبل تطبيق العقوبات ضد روسيا، وواصلت لعب دور الوساطة التي لم يتجاوب معها الطرفان الروسي والأوكراني بشكل جاد.
ومن قبيل خلط الأوراق أيضاً احتمال تصعيد عسكري في ساحات صراع أخرى، ويتزايد الحديث حول احتمالات تصعيد في الجبهة السورية، وهنا تلعب الأطراف الإقليمية الثلاثة النشطة في هذه الساحة، وهي إسرائيل وتركيا وإيران، دوراً مهماً في هذا التصعيد الذي يرافقه تواتر حديث غربي عن انسحابات روسية لم تتأكد، بل ثمة معلومات تناقضها، وتدفع هذه الأفكار إلى تصعيد الأطراف الثلاثة سابقة الذكر، وكأنها تريد استغلال الموقف لتوسيع نفوذها ووجودها العسكري في سوريا، سواء بتحرك عسكري تركي لضم مزيد من الأراضي بحجة المنطقة العازلة، أو بالتصعيد الإسرائيلي ضد القواعد والوجود العسكري الإيراني في المناطق السورية الجنوبية، وفي جميع الأحوال تموج الساحة السورية بتفاعلات ضخمة، قد تمثل في ذاتها توسيعاً لنطاق الحرب الأوكرانية.
وتتعمق كثير من الأزمات الاقتصادية، وتتضح هشاشة العالم في كثير من هذه الجوانب، على رأسها الغذاء والطاقة، التي لم تعد تقتصر على النفط والغاز والحبوب والأسمدة، بل تمتد أيضاً إلى الطاقة النووية، التي تلعب فيها روسيا وبعض حلفائها في وسط آسيا دوراً مهماً في توفير مادة اليورانيوم، كما تلعب روسيا الدور الأكبر عالمياً في مجال تصدير وبناء المحطات النووية في العالم، ويصب كل هذا في خانة السردية الغربية بشأن تقليل أهمية موسكو الاقتصادية عالمياً التي تحتاج إلى مراجعة، وأن الأمر أكثر تعقيداً من هذا. كما يبدو التباس الجانب الاقتصادي أيضاً في أن تعلن واشنطن وأوروبا مساعيها لإنهاء الاعتماد على النفط والغاز الروسيين، ثم تتهم قيادات غربية موسكو باحتمال وقف تصدير هذه السلع الاستراتيجية.
كما أن ورقة المرتزقة والمقاتلين الأجانب التي أشرنا إليها من قبل تهدد بتعقيد الصراع وانتقاله إلى ساحات أخرى عديدة، بخاصة بعد تأكد وجود مقاتلين شيشان على الجانبين، بينهم عناصر داعش والقاعدة في الصفوف الأوكرانية.
مراجعات ورؤى أخرى في العالم
من الواضح كذلك أن كثيراً من المراجعات تجرى حالياً، فمنها بعض المراجعات الأوروبية التي تخشى صراحة مزيداً من انفلات المواجهة، ومن تبعات اقتصادية وعسكرية قد تهز عدداً كبيراً من دول العالم، بما في ذلك دول غربية.
وواضح أن بايدن يحاول رتق آثار كثير من سياساته منذ وصوله للحكم، وعلى رأسها علاقاته العربية، وهو ما يفسر زيارته المقبلة للمنطقة ولقائه المقبل مع زعماء الخليج ومصر والأردن والعراق، وفي الواقع أنه من الصعب توقع اختراقات كبيرة ناتج لهذه الزيارة، لكن تظل أهم دلالاتها اعتراف الإدارة الأميركية بأخطاء سياساتها السابقة، ومشكلاتها الهيكلية في هذا الصدد التي يصعب زوال آثارها بمجرد هذه الزيارة، بخاصة أن احتمالات ضعف الإدارة الحالية بعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل عالية للغاية.
وفي النهاية يبدو المشهد العالمي في حالة عالية من الارتباك، وعلى حافة هاوية المؤكد أنها الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تقود البشرية إلى كوارث غير مسبوقة في جميع المجالات أو ينتصر منطق رشيد بنهاية أسرع لهذه الحرب، بما يسمح باحتواء بعض التداعيات، بخاصة الاقتصادية، لكننا نعود إلى ما بدأنا به من أنه من المحتمل أن تكون مثل باقي حروب هذا القرن بناتج معقد، لا يتفق مع مساعي وخطط الأطراف المتحاربة جميعها.
بقلم : محمد بدر الدين زايد مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن رأي الكاتب |
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
RSS |
انشر في تيليجرام |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
| |