صعدة برس - وكالات - عندما أسقط الألمان الشرقيون جدار برلين عام 1989، لم يسقطوا الحدود الفاصلة بين الرأسمالية والشيوعية فقط، ولا كان ذلك إيذاناً بانتهاء الحرب الباردة أو بفتح بلدين مستقلين على بعضهما بعضاً، بل أدت إزالة الجدار الشهير إلى جمع شعب واحد في إطار وطنه الأصلي الذي أريد له أن يكون وطنين لشعبين منفصلين.
هذه الحادثة دلت على أن أواصر العلاقة بين الشعوب والثقافات والجنسيات والهويات المشتركة لا يمكن إنهاءها بمجرد وضع حدود من الأسمنت أو جدار عازل بين بلدين. وهذا ما يقوله المتفائلون حول الحدود بين الكوريتين، التي لا بد في النهاية أن تسقط لأن الأرض التي تفصل بينها كانت ملكاً للشعب نفسه، ولأن هذه الحدود كانت أقسى من سائر حدود العالم حيث فصلت بين أفراد العائلة الواحدة والأقارب، وبات الأخ شيوعياً في دولة شمولية توتاليتارية وأخوه رأسمالياً ورجل أعمال في دولة رأسمالية ديمقراطية، وكل ذلك بسبب حدود تم رسمها على الخريطة أثناء تقسيم الدول بين القطبين المتصارعين بعد الحرب العالمية الثانية في ما سمي الحرب الباردة، أي صراع الرأسمالية والشيوعية لكن عبر وسطاء من الدول الصغيرة كما حصل في فيتنام وتايوان وكمبوديا وفنزويلا وكولومبيا ولبنان وأوكرانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
وكما تكون الحدود الدولية فاصلاً بين دولتين فهي أيضاً رابط جغرافي بين هاتين الدولتين، وهذه الحدود تصبح حاجزاً في حال النزاع، وجسراً في حال السلام والانفتاح والتواصل. وما زال الشعبان الألماني والكوري يثبتان حتى اليوم هذه الفكرة المتناقضة حول الحدود الجامعة والفاصلة في آن واحد.
الحدود والجراد والاتجار بالبشر
كتب الموسيقي البلجيكي المعاصر أوزارك هنري بعد تعيينه في الأمم المتحدة سفيراً وطنياً للنوايا الحسنة ضد الاتجار بالبشر، وقد اشتهر بعمله مع منظمة أطباء بلا حدود (MSF) “عندما كنت أعيش عند الساحل البلجيكي شاهدت آلاف المهاجرين يصلون إلى مدينة كاليه القريبة في فرنسا. لقد صدمت بشدة من ضعف هؤلاء اللاجئين والمهاجرين، وبخاصة النساء والقصر غير المصحوبين بذويهم، الذين هم أكثر عرضة لخطر الوقوع ضحايا للمتاجرين بالبشر. يعتقد كثير من الناس أن الاتجار بالبشر يحدث في الأزقة المظلمة بينما يقع أمامنا على شواطئ ما نسميه العالم الأول”.
يرى كثيرون أن جريمة الاتجار بالبشر العابرة للحدود الدولية تحت أقنعة مختلفة، أولها الهجرة غير الشرعية، تؤثر فقط على النساء والفتيات اللاتي يتم استغلالهن جنسياً، والرجال والفتيان ضحايا العمل القسري. لكن هناك أشكالاً أخرى أكثر فظاعة للاتجار بالبشر مثل بيع الأطفال أو خطفهم من أجل بيع أعضائهم. وبالطبع لا يمكننا القول إن حراس الحدود الحكوميين أو المنظمات الدولية المعنية بشؤون الهجرة واللاجئين تغض النظر عن هذه الجرائم الفظيعة، لكن الحدود المفتوحة بين الدول كما هي الحال في الاتحاد الأوروبي، أو الحدود الطويلة غير المضبوطة كما هي الحال بين الولايات المتحدة والمكسيك، أو بين بلدان جنوب الصحراء الأفريقية وشمالها الذي يطل على أوروبا، أو حيث تدور حروب علنية أو مستترة تؤدي إلى انتقال ملايين البشر داخل أراضي بلادهم أو نحو مخيمات اللاجئين في البلدان المجاورة، فإنه على كل هذه الأنواع من الحدود تقع مخالفات وجرائم ونشاطات غير شرعية كثيرة لا تتمكن السلطات من ضبطها في حال لم تكن متواطئة فيها.
والقضايا التي تفرضها الحدود المرسومة بين الدول، والتي ما زالت تنتج مشكلات مختلفة الأنواع حتى اليوم في مختلف القارات، معظمها تدور عند الحدود وبسببها. وكأن راسمي الخرائط الاستعمارية قد رسموها عن قصد بشكل يبقي النزاعات الحدودية بين دول كثيرة غير محسومة أو بلا حل من أجل الاستغلال السياسي والعسكري حين يكون الوقت مواتياً.
لكن حتى الحدود المضبوطة يمكن خرقها من قبل الطبيعة، فالجراد الذي يجتاح القرن الأفريقي والشرق الأوسط وآسيا بحسب آخر تقرير صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) يهدد لقمة العيش لعشر البشرية، وقد خلق في العامين الماضيين وضعاً معقداً في مناطق النزاع المسلح والنزوح الداخلي واللاجئين وأزمات الرعاية الصحية وانعدام الأمن الغذائي. ويكمن خطر الجراد في تكوين الأسراب عندما تجتمع بسبب ندرة الغذاء فتقوم بالتكاثر من دون انقطاع.
وعانى القرن الأفريقي الكبير من موجات جفاف شديدة على مدى السنوات الـ25 الماضية، ما أدى إلى القضاء على المحاصيل والماشية. وهكذا يكون الجراد الذي لا يكترث للحدود موحداً للشعوب المقيمة خلف جهتيها في البؤس والفقر وانعدام الأمن الغذائي. وفي كل الأحوال فإن هذا الفقر الواحد ليس وليد شراهة الجراد وتكاثره بل وليد السياسة الدولية القائمة على فرض السيطرة على المنازعات الحدودية، فالحدود يمكنها أن تكون جغرافية وعرقية وإثنية ودينية. ولطالما حاول المسؤولون في الحرب الروسية – الأوكرانية المستمرة حالياً أن يجعلوها حرباً بين أوكرانيين ينطقون بالروسية وآخرين بالأوكرانية، أو بين مدافعين عن الثقافة الروسية وحضارتها العريقة في مواجهة المد الغربي باتجاهها.
حرب الأيديولوجيات وسلام الإنترنت
والحرب العسكرية التي تدور على الأرض الحدودية حيث تضم دولة أراضي دولة أخرى وتقوم بتغيير حدودها الدولية المعترف بها، قد لا يكون سببها ملكية الأرض قدر ما يتعلق بحماية فكرة معنوية قد تكون اللغة المحكية واحدة من مبرراتها، على رغم أنها يمكن أن تكون سبباً للتغني بالتنوع الثقافي داخل شعب واحد وليس سبباً للتمييز والتفرقة والانقسام.
الأمراض أيضاً من أنواع المشكلات الحدودية التي لا تكترث للحواجز الحدودية، فالسكان الأصليون في قارة أميركا منذ خضعوا للاستعمار وبعد احتكاكهم مع الغزاة الأوروبيين فتكت بهم الأمراض الجديدة التي عبرت الحدود في أجساد المهاجرين إلى الأرض الجديدة، ما أدى إلى انقراض بعض مجموعات السكان الأصليين، وهذا مثال آخر على أن الحدود التي يرسمها البشر بين الدول بلا نفع مهما تمت حراستها وتسليحها ورفع الجدران عليها.
وهذا ما ينطبق على الأفكار والعقائد، فعلى رغم وقوف العراق سداً منيعاً في وجه تمدد الثورة الإيرانية نحو العالم العربي، ما كلف البلدين حرباً امتدت لثمانية أعوام وانتهت بآلاف القتلى بين الطرفين، لكنها لم تتمكن من وقف المد العقائدي لفكر الثورة الإيرانية الديني، ولم تؤثر أيضاً العقوبات الاقتصادية والمالية والتجارية المفروضة منذ عقود على إيران في منع انتقال سلطاتها وسيطرتها نحو البلدان المجاورة.
والأفكار التي لا تعرف الخرائط ولا الحدود المرسومة فوقها تمر وتنتشر تحت شعار إزالة الحدود بين الدول لقيام العالم الواحد. وكل العقائد في عصرنا الحالي ما زالت تردد مثل هذه الشعارات التي تريد جعل العالم كله أرضاً واحدة يعيش فوقها البشر بلا تمييز أو جنسيات وجوازات سفر. وأغنية المغني الإنجليزي جون لينون الشهيرة “احلم”، التي تدعو إلى إزالة الحدود نهائياً وصلت إلى أسماع ما يقارب ثلاثة أرباع البشر، وصارت من بين الأغاني الإنسانية الخالدة، لكنها لم تسهم في فك القيود الحدودية قيد أنملة وإن أسهمت في إزالة الحدود النفسية بين الناس حول العالم.
على أن ثورة الإنترنت ووسائل الاتصال قربت بين الناس زماناً ومكاناً خلال عقدين أكثر بكثير مما فعلت كل الأيديولوجيات والعقائد، بل وجعلت الحدود المادية بين الدول مثيرة للسخرية إلا في حالات الهجرة إلى دول الشمال، حيث ما زالت الكوارث الإنسانية تقع أسبوعاً بعد أسبوع من غرق المهاجرين الشرعيين أثناء محاولات العبور بحراً إلى موتهم في الطرق البرية برداً وجوعاً وضياعاً.
في مقالته “حدود ما وراء الحدود” يكتب الباحث بن هايلاند في مجلة جامعة وينشستر البريطانية، أنه تم وضع الحدود الجغرافية للسيطرة على المهاجرين، لكن هذه الحدود ليست الوحيدة التي يواجهونها، فهناك الحدود القانونية والاجتماعية والعنصرية والطبقية.
وكتبت روزي بيكوك تحت عنوان “القرن الحادي والعشرون: عصر الحدود الدولية غير الحكيمة وعداء المهاجرين” أنه يجب اعتبار العصر الذي نعيش فيه عصر الحدود بامتياز، فعلى مدى قرون كان المهاجرون ينتقلون في جميع أنحاء العالم، لكن ما يجعل القرن الحادي والعشرين مختلفاً هو أن الحدود المادية تعزز الهجرة من خلال محيطات العالم. فهذه المحيطات والبحار التي ما زال بعض الدول يعتبرها حدوداً مجدية وثابتة تتحول هي نفسها إلى وسيلة انتقال المهاجرين الخطرة والشبيهة بالمغامرة والمقامرة بالنفس والعائلة”. ولا بد من التذكير أنه في المتوسط وحده يقدر عدد المهاجرين الغرقى منذ عام 2015 بـ1300 شخص ابتلعهم البحر بعد أن كاد يبتلعهم الفقر والبؤس والحروب من حيث أتوا.
ماذا عن الحدود العربية؟
عند الحدود مع إيران شهدت محافظة البصرة العراقية تدهوراً بيئياً وانخفاضاً في كميات الموارد المائية، فتراجعت الزراعة وتسبب بنزوح سكان الأرياف نحو مراكز المدن ما يعني مزيداً من البطالة والفقر وازدهار الاقتصادات غير الرسمية وغير الشرعية، ونمو التنظيمات الأصولية. واستمر هذا الوضع بسبب العلاقة غير المتكافئة بين إيران والعراق، حيث تميل كفة العلاقات الحدودية لمصلحة إيران. وفي خلاصة هذا البحث رأت المؤسسة الدولية المعنية بالسلام أن طهران تنظر إلى حدودها مع العراق على أنها ممر لنفوذها العسكري والاقتصادي والعقائدي.
وبحسب دراسة أجراها مركز “مالكوم كير كارنيغي” بدعم من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK Aid التابع للحكومة البريطانية، فإن العلاقات بين سوريا والأردن تفيد اقتصاد البلدين، فمنذ فتح الحدود خلال العام الماضي لم يعد الأردن مجرد سوق لبيع البضائع السورية ونقطة عبور لها في طريقها إلى الأسواق الخليجية، بل أصبح مصدّراً إلى سوريا وطريقاً يربط دمشق بالأسواق الدولية. فالحدود المفتوحة والمضبوطة إيجابية حتى لبلدين يشهدان خلافاً سياسياً معلناً.
المصدر : اندبندنت عربية
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع |