{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(الذاريات58) فلا أحد يشك في ذلك..
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(هود6)
وهذا ما لا يمكن للمؤمن إلا أن يسلم به.. ولكن..
أليس للناس طرائقهم المختلفة في البحث عن الرزق؟
وأليس من بين تلك الطرائق ما هو غير شرعي وقانوني وإنساني؟
ثم ماذا عن الناس أنفسهم.. أليس فيهم العادل والظالم، والقنوع والطامع، والورع والجشع، والشاطر والكسول، والمعتمد على ذاته والمتواكل؟..
فهل من الصحيح أن أياً منهم لن يعدم نصيبه، ولن ينقص منه شيء حتى لو قعد عن طلبه؟!
ثم ماذا لو حال الظلم والطمع والجشع لدى بعض بني البشر بين البعض الآخر وبين نيل ما كتب الله لهم من رزق؟!
أليس هذا هو السؤاااال؟!
حكم القوي
لنر حال الملايين من الناس في عرض هذه البلاد وطولها..
صحيح أن التباين الطبقي قد بلغ مداه، إذ لم تعد توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار!! « والحق محفوظ لنزار قباني.. مع شيء من التحوير» غير أن المطب الملح الآن لدى القابعين في القاع هو البحث عن ما يسد الرمق، ويروي الظمأ، ويستر العري، ويأوي الجسد.. ولا شيء غير ذلك، ليس تماشياً مع الحكمة التي تحث من هم في الأسفل على عدم النظر إلى الــــ « هاي هاي » حتى لا يأخذهم الغبن واليأس والقنوط.. وإنما لأن الذين يعتلون القمم صاروا أكثر وحشية من ذي قبل، حتى بلغ بهم الجشع حد محاربة الفقراء والمساكين ومحدودي الدخل في لقمة العيش، كما لو كانوا قد ضاقوا بهم ذرعاً، ولم يعودوا يطيقون السكوت عن الهامش الحياتي الضيقّ الذين يعيشون فيه، مصممين على جعله أكثر ضيقا بسلبهم فتات ما يأكلون ويشربون ويلبسون ويسكنون.. في خطوة وحشية ظالمة تتعمد رميهم في العراء، نهباً لمخالب الجوع والعطش والعري والمرض..
أقدار!!
أي قدر يساق إليه الملايين من الناس في هذه البلاد؟!
إن الحال أشبه بالصراع الدامي من أجل الحصول ولو على أقل القليل من مقومات البقاء..
أسر لا حصر لها يحاصرها الفقر من كل جانب..
وأيد عاملة بلا عمل، ومؤشرات البطالة في ارتفاع..
وموجة الغلاء تزداد تفاقماً واضطراماً..
والجوع قاب قوسين أو أدنى..
وبصحبة كل ذلك آفات وآفات ليس أقلها أمراض تفتك بالأجسام؛ وإنما أخرى أشد تهدم العقول، وتفسد الضمائر..
فكيف سيستبين الواحد منا طريق الخلاص في رحلة البحث عن ما كتب الله له من رزق في ظل هذه اللجة الحالكة؟
وهل أبقى المتقدم للمتأخر شيئاً؟! ثم إلى متى سنظل نسيء تفسير قول أحدهم بالعاميّة: « يا اللي فوق حنوا على اللي تحت» ولا نورده إلا لشيء في نفس يعقوب؟!
2÷ 1 = 0
والآن.. فهل يمكن للواحد منا أن يقف قليلاً للتفكير - مجرد التفكير - في طرائق الناس هنا للبحث عن أرزاقهم؟!
إني لأرجو أن نفكر فيها، بل ونحاول تعدادها ما استطعنا..
وعني أنا.. وكما لو كنت المعني بذلك أولاً.. فإن حصر طرق ووسائل وأساليب الناس في البحث عن أرزاقهم ممالا يمكن لي فعله وإنجازه، وقد لا أذكر منها إلا الشيء اليسير، على أمل الاستعانة بكم في تعداد ما تبقى مما هو معروف وفاتني المجيء به..
ومهما يكن، وبعيداً عن المترفين، فإن ما دونهم من عامة الناس ينقسمون إلى فريقين..
الأقلّ.. موظفون لدى الحكومة في القطاع العام، أو لدى مسئوليها الأغنياء في القطاع الخاص، أو لدى سواهم من الأثرياء..
والأكثر.. يتوزعون بين من يعملون لحسابهم على مختلف الاشتغالات، وبين من يعملون بالأجر اليومي، يجدونه يوماً ويعدمون منه آخر.. وبين من حالت قسوة الواقع وعشوائيته بينهم وبين ما هُيئوا له من أعمال، فلم يمارسوا العمل فيها أو في غيرها بالمطلق..
وفي تفاصيل كل ذلك العجب العجاب، ومن دونها الكثير والكثير..
خارج المعادلة
ولأن نظام البحث عن الرزق قد طاله الاختلال، وحلّت الفوضى بدلاً عن قوانينه الدقيقة، وشريعة الغاب عوضاً عن مبادئه المستقيمة وأحكامه العادلة.. فقد كان من الطبيعي أن يلجأ الكثيرون إلى ابتكار وسائل جديدة لطلب الرزق، إمعانا في مجاراة موجة الكسب بطرق ملتوية، من دونما كثير سعي وجد وعمل واجتهاد..
فإذا كان الاحتكار ورفع الأسعار وسلب المواد قيمتها الغذائية والصحية، بل ومقوماتها الطبيعية وحجمها الحقيقي، من أساليب التجار لإرضاء ولعهم بالمال وشغفهم بجمعه وتكديسه والإثراء منه.. فإنه من غير المستغرب أن يظهر على الطرف الآخر بين الكادحين ومحدودي الدخل من يتخذ- في رحلة البحث عن انتزاع لقمة عيشه- وسائل وأساليب لا تقتصر على التسول والشحاتة والاستجداء بمد اليد مصحوبة بمقولة: « لله يا محسنين».. وإنما تتعداها إلى عمليات نصب وسرقات منظمة، وبخطط غاية في الإتقان والتنظيم!!
وشيء آخر.. فإذا كان الكثيرون ممن هم « في الأعلى» لا يتورعون عن الإثراء غير المشروع بنهب المال العام، والتطاول على حقوق الضعفاء، والخوض في الفساد المالي والإداري، فإنهم بسلوكهم هذا يعطون مسوغاً لمن هم دونهم للاقتداء بهم في النهب والسرقة والتطاول..
وهؤلاء بدورهم يجد فيهم من هو دونهم مبرراًُ كذلك..
وهكذا حتى تكتمل السلسلة بالمواطن العادي والكادح الفقير، حتى تصبح قيم النهب والنصب والسرقة شعار الجميع..
فمن أحق بأن يؤخذ على يده هنا أولاً، وعلى من يقع اللوم ابتداءً؟!
بعد « القبيح » بعده!!
من منّا لم يسمع من الشعر البيت الذي يقول :
إذا كان ربّ البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
ثم أليس في شيء من دلالته ما يشبه إلى حد كبير واقع الحال الذي يجري هنا؟!
وطالما كان من الواضح أن البعض من الناس قد أصبحوا أثرياء بين عشية وضحاها بمجرد اعتلائهم لمناصب مرموقة.. فإن تسابق أقرانهم للحاق بهم، واتخاذ طريقهم ليس من الصعوبة بمكان، ووحدها مفردات من قبيل النهب، والسرقة، والنصب، والاحتيال، وطلب الرشوة، والسطو، والابتزاز.. هي الأكثر تداولاً في أيما دائرة هنا يجد الإنسان نفسه ملجأ للمعاملة فيها، والتعامل مع موظفيها، فلسان الحال هو الكسب من حلّة ومن غير حلّة، بحثاً عن الثراء والترف والوجاهة والبهرجة!!
أما البحث عن الغنى بالاتجار في الممنوع ( !!!!!! ) فإنه حديث ذو شؤون وشجون، ووحده القرآن الكريم أصدق حكماً وبياناً وتبياناً.. « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم» (المائدة33).
سلالم للأعلى.. للأسفل!!
هذه إشارات عامة لبعض من وسائل الناس في البحث عن الرزق، وفي الحكم عليها يصح التساؤل عن أي منهج هذا الذي يحتكم إليه الخلق في هذا الجزء من الأرض؟!
فبينما يكد ويكدح المستضعفون طويلاً طلباً لحلال قليل يبقيهم ومن يعولون على ظاهرية الحياة، نجد غيرهم من المتنفذين يسلكون أسرع الطرق إلى تكوين الثروة وأقصرها إلى الكسب الحرام، وما بينهما قوم - قد يصغرون أو يكبرون - خلطوا عملاً سيئاً وآخر صالحاً.. وشوكة الميزان هي الفيصل!!
أما المستضعفون فأنى لهم الصبر على الرزق الحلال والكسب من عرق الجبين، وقد أصبح ما يحصلون عليه من أجر لأعمالهم لا يكاد يفي بمتطلبات البقاء، وحاجيات الغذاء والدواء والملبس والسكن؛ في ظل تزايد ارتفاع أسعار المواد الضرورية، الذي ينذر على المدى القريب بتفاقم أعداد الذين لا يستطيعون التزود منها بما يملأ البطون، ولو كان خبزاً بمفرده، فضلاً عن ما يكفيهم غذائياً وصحياً!!..
وعلى الرغم من معاناة الغالبية من الموظفين الذين يجدون أنفسهم يرزحون تحت وطأة الديون، حيث لم تعد تجدي رواتبهم نفعاً إلا من باب « وداوني بالتي كانت هي الداء!! » إلا أنهم في درجة متقدمة من مراتب العيش عن من سواهم من العاطلين أو غير العاطلين..
فقد يكون ثمة فرق بين بلاء وبلاء، أو ربما كان حال الفريقين أشبه بقول القائل: « بعض البلاء ولا كله » وإن كان لا يعني للغريق شيئاً من الأهمية تزايد ارتفاع الماء فوقه لأمتار، طالما وقد غطى قامته بسنتيمترات!! وبملاحظة أن الموظفين على بلائهم لا يكادون يمثلون رقماً أمام غير الموظفين.. فأي بلاء هذا الذي يحيط بالمعدمين والفقراء والمساكين في رحلة انتزاع لقمة العيش من بين فكي السبع؟!
« ايش جاب لجاب»؟!
ومرة أخرى.. فهل يمكن للواحد منا أن يقف قليلاً للتفكير في طرائق الناس هنا للبحث عن أرزاقهم؟!
وللتنبيه.. فلم أعد أعني مطلق « لفظة » الناس بمن فيهم المترفين.. وإنما أقصد بالناس « العامة ».. هذا السواد الأعظم من المستضعفين في الأرض ليس إلا.. أما المترفون فقد أعادوا للفوارق الطبقية زمنها الذي يجعل ثلة من البشر فوق البقية من الناس بمراتب عديدة، كما لو كانوا بعض آلهة الإغريق أو فراعنة مصر القديمة..
ثم لماذا ضم أساليب المترفين في الكسب إلى جانب طرق المستضعفين في البحث عن الرزق، وهم- أي المترفون - الذين ألجئوا البسطاء والمعدمين والفقراء والمساكين إلى العيش على هامش الحياة؟!
إذاً فليس من الناس من يتطاول عليهم ظلماً وعدواناً..
وإذا كان المترفون قد ضيعوا على البسطاء أقواتهم، وفرضوا عليهم أنماطاً بائسة من الاسترزاق يعيشون من خلالها طيلة حياتهم.. فإنهم لم يعودوا من الناس، طالما وقد وضعوا بينهم وبين العامة طريقاً شائكاً لا يمكن العبور عليه من غير ما ثراء وتخمة وترف وخيلاء!!
فلماذا نقرن بين المختار والمجبر، والمسرح والسجين، والغالب والمغلوب على أمره؟!
وهل يصح الجمع بين الجاني والمجني عليه.. أو النطق بذات الحكم على الجلاد و الضحية؟!
اللهم لا.. فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا..
أنتم الناس أيها الـ..
أما وقد اتفقنا على أن الناس هنا ليسوا إلا عامة المغلوبين على أمرهم والمستضعفين في الأرض ففيما يلي قليل من كثير قد يكشف استذكاره بعض تفاصيل البؤس والشقاء في رحلة حياتهم المضنية للبحث عن الرزق..
إن في حياة هذا السواد الأعظم من البشر الكادحين ما هو ظاهر على السطح وما هو مستتر، وكلٌّ آخذ من البلاء بنصيب، فالجميع يعانون الآم البحث عن لقمة العيش ومتطلبات الحياة.. غير أنهم قد يختلفون في التعبير عن هذه الآلام، أو في طبيعة مواجهتها..
فبينما يكد ويكدح الكثيرون في هدوء وصمت، لا يشتكون بؤس حالهم إلا لله، رافضين أن يمدوا أيديهم لأحد مهما بلغ بهم العناء وضاقت بهم السبل.. نجد آخرين قد سئموا ما هم عليه من ضيق ذات اليد فضجوا بالشكوى عن حالهم المزري، يتوسلون الخلق ويستجدون البشر، ويطلبون منهم العون والصدقة والإحسان..
وهؤلاء الذين يسمون ب « المتسولين» أو «الشحاتين» أو « الطّلابين».. هم الكثافة البشرية التي يحق لبلادنا أن تنافس بهم البلدان الأخرى.. لاسيما ومجمل الأوضاع في هذا الوطن تعمل على تفاقم أعدادهم وتكاثرهم يوماً بعد آخر، كما لو كان الكبار في هذه البلاد سيفاخرون بهم الأمم!!
بين الغلابة و « فنان العرب»..
فالحال - إذاً - أن التسول قد غدا سبيلاً واسعاً يسلكه الكثيرون في رحلة البحث عن الرزق ..
والمخيف حقاً هو أن هذا السبيل يزداد اتساعاً كل يوم، وأعداد مرتاديه في تزايد وتكاثر وارتفاع..
ولربما تكشف حقائق الواقع الأليم عن نية لدى المترفين في الزج بالبقية من المستضعفين القابعين الذين لا يريدون استجداء الناس إلى التسول والشحاتة وطلب الفتات والعيش على الصدقات، شأنهم شأن من كان الحياء يمنعهم عن الشكوى لغير الله فأبت قسوة الحياة وظلم الإنسان إلا أن يريقوا ماء وجوههم على كل ناصية..
وبقليل من التفكير.. فماذا ينتظر الكثير من الأسر والأفراد الذين يجدون أنفسهم يوماً بعد يوم يتنازلون، ليس عن الكماليات فقد هجروها من زمان ، وإنما عن أجزاء من الضروريات؟!
وطالما ومرور الليالي والأيام عليهم يجعلهم حيناً بعد آخر يفقدون من أساسيات العيش أكثريتها الواحدة تلو الأخرى.. فلماذا لا يكون صحيحاً أنه سيأتي عليهم اليوم الذي لا يتبقى فيه لهم من ضرورات الحياة أي شيء؟!
وعندها.. أليس التسول هو الضوء الذي ينتظر الجميع في نهاية النفق.. إن لم يكن الموت والرحيل؟!
ليس في هذا الكلام ما يحسب على التشاؤم المستطير، أو اليأس المبالغ فيه.. فهذا هو الحال.. يا من تسأل عن الحال.. « والحق هنا محفوظ لفنان العرب محمد عبده»..
غير أن الفرق بيننا وبينه هو أنه لما تغنّى مردداً بألم وحسرة: « تنشد عن الحال.. هذا هو الحال».. كان يقصد الحبيب الذي غادره وتركه لوحده يعاني آلام الفراق، ووجع البعاد.. أما نحن فإن أحباءنا الذين نشكو آلام بعدهم ليسوا إلا الغذاء والدواء والملبس والسكن.. فأينا أحق بالألم والحسرة والأسى والأنين؟!..
لا .. لا .. لا !!
تلك طرائق في العيش تبتلع المعدمين دهاليزها الموغلة في التيه على مدار الساعة.. ويكاد المترفون يحكمون فيها عليهم الخناق، كأن لم يكفهم ما هي عليه من الضيق، وما هم فيه من الوحشية والاضطراب!!
وهناك أخرى غيرها كثيرة، فلم يكن التسوّل أول الفتح إلى الانحدار ولن يكون الأخير..
وللتوضيح.. فإذا كنت قد قصرت الحديث عن الشحاتة في فئة من المستضعفين فلا أعني خلوها من الكبار المترفين، وإنما لأنه قد سبق التنبيه أولاً على أن هذه السطور تعني الناس وحدهم، والمترفون ليسوا منهم، وأظن أننا متفقين على ذلك..
أما ثانياً.. فإن شحاتة المترفين وطرقهم في التسول أفضع مما قد نتصوره نحن البسطاء، وأكثر إيغالا في النصب والاحتيال، وأكبر جرماً وشناعة..
مما يعني أن هذه المساحة لن تقوى على تحمل فضاعة طرقهم وشناعتها، ولسنا بحاجة إلى مجرد ذكرها وتذكّرها..« واللهم إنني لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم »!!
من جرائم الحدود
وعودة إلى العامة.. هذا السواد الأعظم من المستضعفين في الأرض، فعدا عن التسول الذي يساقون إلى اتخاذه طريقاً للبحث عن الرزق فإن استحواذ شلة قليلة على موارد الحياة وخيراتها مما يدفع بالبعض من المعدمين إلى انتهاج مسالك فيها من الوعورة والخطورة ما يجلب عليهم اليأس والشقاء، وامتهان الكرامة الإنسانية أكثر مما يحفظ لهم البقاء في هذه الدنيا الدنيئة الفانية..
وعلّ ما يستوجب الذكر ابتداءً هو البحث عن الرزق خارج الوطن، ولكن بغير الطرق الرسمية التي يستحيل على الغالبية بلوغها، مما يدفع بهم إلى التدفق متهربين نحو بعض دول الجوار، حيث تشهد الحدود مرور الآلاف من الشباب والشيوخ، بل والنساء و الأطفال، على حين غفلة من « العسكر» طلباً للاشتغال في أي عمل يضمن لهم العودة بشيء من المال..
والخطورة أن منهم من يناله التعذيب وتمتهن كرامته، وهناك من يقتل ولما يجتاز الحدود بعد، ومنهم من يموت بعدها بمراحل، والكثيرون تمتلئ بهم السجون وقد ألقي القبض عليهم خلال حملات البحث عن المتخلفين ومجهولي الهوية وغير المقيمين..
فصلٌ آخر من كتاب الشقاء على إنسان هذا الوطن تشهده الحدود..
شباب كثيرون فقدوا الأمل في إمكانية الحصول على« ستر الحال» داخل البلاد، ولما ضاقت بهم لجئوا إلى الهروب متسللين، فمنهم من لقي حتفه، ومنهم من ينتظر، والقصة على استمراريتها صارت غصة تكاد الروح معها أن تبلغ الحلقوم..
لربما قد يرى البعض انه ما من داع لأن يستبد بنا الشجن كثيراً على حال هؤلاء الشباب، فلديهم القدرة على تحمل العناء والشقاء بحكم فتوتهم!!
ولكن.. ماذا عن حال الشيوخ والنساء والأطفال الذين يواجهون على الحدود وبعدها نفس المصير؟!
وأية ظروف هذه التي ألجأتهم إلى السير على هذا الدرب المظلم المليء بالمخاطر والمتاعب والأهوال؟!
لقد تطورت حكاية البؤس عن عمالة الأطفال في الداخل إلى تهريبهم خارج الحدود لذات الغرض وأشياء أخرى (!!!!)..
أما الشيوخ فماذا يرتجى من الطاعن في السن أن يعمل هناك إلا مد اليد واستجداء العطف والشفقة؟!
إن ذلك مما يبعث على المرارة، وإذا كان هناك ما هو أمر فلن يكون إلا حال النسوة اللاتي يسقن عبر الحدود إماءً يجري عليهن ما كان متبعاً في أسواق النخاسة والرقيق، أو ما يشبهها.. مع مراعاة فارق التوقيت بين حاضر الحضارة المادية الجشعة وماضيها!؟
وأخرى على الجانبين
وقريب مما سبق ما يتم تداوله عن لجوء العديد من الأسر والفتيات إلى التضحية بالشرف وممارسة البغاء..
وهناك قصص عن كثيرات وجدن أنفسهن تحت وطأة البحث عن متطلبات العيش فرائس للذئاب البشرية الجائعة إلى التهام كل ما هو منكر وجرم وحرام..
وفي جانب آخر كان البحث عن رزق يستر من الفقر الفاضح حاضراً بقوة وراء كثير من حالات ما يسمونه بـ ( الزواج السياحي) الذي اشتهر كظاهرة يزداد تطاولها في اليمن يوماً بعد آخر..
فكم من أسرة باعت ابنة لها مقابل إغراءات ساقها ثري أتى من خلف الحدود!! وكم من قصة ترك فيها البطل السائح الثري زوجته التي قبض أهلها ثمنها، عرضة للمعاناة الدائمة، ونهباً للتيه واليأس والضياع!!
وتستمر المأساة..
ليس هذا فحسب ، فهناك في قصة البحث عن الرزق الكثير من الأبواب التي لا يمكن لي الإتيان على فتح جميعها، وأجدني هنا - وقد أخذني الذهول من هول ما استذكرت من فضاعة الوقائع - أكتفي بالتعريج على ثلاث من طرائق البحث عن الرزق..
أما الأولى.. فقد تتمثل في تشكل بعض المعدمين على عصابات للسرقة، يأخذون فيها ما يحسبونه رزقاً لهم غصيبة وانتزاعاً، تحت سيطرة الانتقام من الشلة المترفة التي يؤخذ على الغالبية من أفرادها انتهاج سبل إذكاء روح الشر واليأس والانتقام في نفوس الغلابة..
وتأتي الثانية قريبة منها ولكن بسبيل آخر.. حيث يدفع البؤس إلى تطرف الكثير من الشباب وانتظامهم في جماعات ذات تكوين إرهابي تحريضي يعادي الجميع ويتخذ من العنف - النظري والعملي - أسلوبه الأمثل للتعاطي مع مختلف شؤون الحياة..
وأخيرا وليس آخراً.. فقد يكون فيما حذرت منه مجلة ( الأسرة والتنمية) في العدد (47) من التنصير الذي قالت إنه بات يغزو مجتمعنا وعلماء الدين في هذا البلد مشغولون عنه باهتمامات هامشية..
قد يكون في هذا التحذير ما يتوجب علينا الإشارة إليه كون واقع البؤس الذي يعيشه الكثيرون في مجتمعاتنا، لاسيما من الشباب العاطلين ، مما يدفع بهم نحو تبديل ما هم عليه من دين بحثاً عن الرزق، وطمعاً في حياة أفضل..
وختاماً..
فتلك بعض طرائق الناس هنا للبحث عن الرزق..
ورغم سوداوية الكثير من مسالكها إلا أن كل السوءات والآثام والذنوب تتوجب ابتداء على الذين أطفئوا الأنوار في مداخل دروب الحياة الواسعة، وأبوا إلا أن يحيطوا السواد الأعظم من المستضعفين في الأرض بالحيرة والظلام..
فهل يدرك هؤلاء أن الجوع كفر، والعري عار، والعطش يأس، والمرض حسرة..
وأن لكل تلك العاهات شروراً تؤذن باشتعال نار سيأتي لهيبها على الجميع؟!..
= عن مجلة (الأسرة والتنمية) العدد (48) .