صعدة برس - يظل الصراع الدائر بين القوى الشبابية المطالبة بدولة مدنية حديثة من جهة، وبين شيوخ القبائل والإسلاميين الذين يقفون في وجه التغيير من جهة أخرى، يتسم بعدم التكافؤ.
لندن – لم تكن المجموعات الشبابية التي اختارت النزول إلى الشارع تعبيرا عن الاحتجاج ورفض الحكم السلطوي المستبد للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح تتصور أن المشكلات القبلية المزمنة التي تسيطر على اليمن، سوف تكون لها الكلمة الأخيرة في النهاية، وسوف يدخل الصراع التاريخ، الذي يرتكز على العناصر الثلاثة الرئيسية في المشهد السياسي اليمني (الحوثيين، الجنوب، القاعدة).
وتعود أهمية سؤال الدولة المدنية إلى أن اليمن هي إحدى أكثر الدول العربية من حيث التركيبة الاجتماعية التقليدية القبلية والمناطقية، التي ظلت المرجعية الأساسية لمراكز سلطة القرار منذ ما يقارب 1100 سنة ووقفت حجر عثرة أمام تطوير بنية الدولة في العقود الماضية، وبعض مناطق اليمن لم تتخط أوضاع سكانها حالة مجتمعات ما قبل الدولة، إذ لم تنل منها أطوار الحداثة سوى طبيعة الهياكل والأبنية الاجتماعية، أو التقاليد والثقافات السائدة، أو أنماط الإنتاج وتوزيع الموارد بين القبائل والمناطق وبين البوادي والريف والحضر.
وتعد هذه التركيبة السياسية والديمغرافية من أعقد الصعوبات التي تواجه اليمن في محاولاتها المستمرة للتحول إلى الدولة المدنية المعاصرة، باستثناء المحاولات المتفرقة على مدار التاريخ اليمني الحديث للتحول إلى الدولة المدنية المعاصرة، التي تلخصت في محاولتين، أولهما، تجربة الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي (1974 – 1977) الذي سعى إلى هدم الفكرة القبلية والتحرر من سيطرة القبائل.
الرفض القبلي للتغيير
لم يقدم حصاد الثورة اليمنية حتى الآن دلائل مؤكدة على إمكانية الخروج من معادلات الحكم الفاسدة التي رسخها الرئيس علي عبد الله صالح، خلال فترته التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاما (1978 – 2011)، والتي لعب فيها على التوازنات القبلية في ظل سياسة فرق تسد، حيث لا تزال نتائج تلك السياسات ومعادلاتها المعقدة تلقي بظلالها على المشهد الجديد وإن كان بأشكال مختلفة، وهو ما جعل بعض اليمنيين لا يرون تغييرا في المشهد الجديد بعد الثورة. فلقد قام صالح خلال فترة حكمه بتوزيع سلطة اتخاذ القرار على أساس الولاء والزبائنية، وأعاق تغلغل الدولة في المجتمع، وفوض بعض مهامها للبنى القبلية، بهدف تكوين شبكات من علاقات الولاء والتبعية الشخصية مع رموز النخبة التقليدية من شيوخ القبائل، وكل ذلك يفترض أن يقف حجر عثرة أمام مشروع الدولة المدنية.
وعلى الرغم من أن تجربة الشباب والشيوخ والنساء والأطفال من مختلف القوى والمناطق الذين تجمعوا في الميادين العامة تعد تجربة مضافة إلى تاريخ اليمن الوطني والمدني الحديث على نحو يضع حجر أساس لبداية قوية لمشروع الدولة المدنية الحديثة.
لقد أخذ مشروع الدولة المدنية طريقه أيضا إلى برنامج حكومة الوفاق الوطني، لكن المشهد اليمني لا يشير إلى أن هذا الهدف سيكون الأساس الذي يوجه القوى السياسية والحكومة خلال الفترة المقبلة، وإنما من المتوقع أن يقع بشأنه خلاف -وربما صراع- كبير، فإلى جانب طرح شعار الدولة المدنية في ميادين الثورة، فقد شهدت تلك الميادين حضورا مكثفا للقبيلة وانخراط جزء كبير من مشايخ القبائل في الثورة، وعلى رأسهم شيوخ قبيلة “حاشد” من أبناء الشيخ عبد الله الأحمر، وهذه القوى القبلية لم يكن دافعها من وراء الانحياز لجانب الثورة الإيمان بالتغيير السياسي الشامل، بل الوصول إلى السلطة لتحقيق أهدافها وفق أجندة تقليدية تناقض مشروع الدولة المدنية.
وينظر الإسلاميون بتوجس إلى خيار الدولة المدنية لما ينطوي عليه من دلالات علمانية، وفي هذا الصدد يؤكد الشيخ عبد المجيد الزنداني رئيس مجلس شورى “التجمع″ أن “مفهوم الدولة المدنية هو مفهوم غربي وافد على البلدان العربية والإسلامية، كما أنه مفهوم مشبع بدلالات فكرية واستراتيجية ترتبط باستراتيجيات علمنة المجتمعات المسلمة، وإزاحة النموذج الإسلامي عن السياسة والحكم”.
ويعزز قوة هذه التوجهات أن الكفة تميل لمصلحة الإسلاميين، وهم الأكثر قدرة على التعايش مع الواقع القبلي التقليدي المناهض لتوجهات الدولة المدنية الحديثة. فقد تمكن الإسلاميون من القبض على مفاتيح التغيير والسيطرة على منصات الثورة في الميادين المختلفة، وإلى حد كبير استولى الإسلاميون على ثورة الشباب، وغدوا يتحكمون بإيقاعها، وقدموا أنفسهم (بعد الإطاحة بصالح) كمدافعين عن الكيان اليمني الموحد.
تعقيد المشهد
لذلك لم يكن غريبا أن لا يرى أغلب اليمنيين تغييرا كبيرا في المشهد العام، حتى بعد نهاية حكم الرئيس علي صالح. فلم تسفر الثورة عن حراك مجتمعي وثقافي نافذ في قلب التربة الاجتماعية اليمنية، وإنما بقي الصراع منحصرا في ذات القوى القديمة وحول نفس المعادلات والصيغ، وإلى حد كبير تعرضت الثورة للتعطيل، ولم ترد القوى التقليدية (سواء في النظام أو في المعارضة) أن تجعل من شباب الثورة شركاء في توزيع وتقاسم السلطة والمناصب أو طرح الرؤى والمبادرات، وبدا اتفاق نقل السلطة وكأنه إعادة توزيع للحصص بين القوى القديمة نفسها.
ويبقى الأهم من كل ذلك تركيبة الحكم القبلي العسكري البيروقراطي قبل الثورة، والتي لا تزال متغلغلة ونافذة في الأحزاب والوزارات والمؤسسات والجيش وقوات الأمن والإدارة والإعلام، والأهم من الأشخاص النهج والثقافات والسياسات وفلسفة الحكم والإدارة، وهي كلها سوف تقف كعثرات -أو على الأقل قد تدخل في اختبارات- مع مشروع الدولة المدنية. إن اتفاق نقل السلطة الذي وقعه الرئيس والمعارضة في 23 نوفمبر 2011، تأسس على صفقة تناقض كل قيم الدولة المدنية.
لقد أبرم الاتفاق على محاصصة بالتساوي بين الأحزاب والقوى القديمة دون أن يكون هناك دور – مؤثر- لشباب ساحات التغيير، وأسفر الاتفاق عن حكومة وفاق وطني مناصفة بين قوى النظام والمعارضة، وتأسست المبادرة الخليجية على صفقة اتفق بمقتضاها الطرفان على ترشيح نائب الرئيس لرئاسة الجمهورية كمرشح توافقي، ولم يكن لأطراف الاتفاق حرية اختيار المرشح أو ترشيح بديل للنائب، وإنما ألزمت بترشيح النائب واختياره، في عملية بعيدة تماما عن ممارسات الديمقراطية. ووافق مجلس النواب في 21 يناير 2012 على مشروع قانون منح الحصانة القضائية الكاملة لصالح. وهكذا حرم اتفاق نقل السلطة الشعب اليمني وقوى التغيير الشبابية من تنفيذ مطالبها بمحاكمة الرئيس، ومعرفة أسرار ما يتجاوز ثلاثين عاما من الحكم.
لكن على الرغم من أن التحليل السابق، يوحي وكأن الدولة المدنية مستحيلة في ضوء تناقضات الواقع اليمني، إلا أنها تظل الخيار الضروري في ظل مشكلات هذا الواقع، فالتحول إلى الدولة المدنية ليس اختيارا يمتلك اليمنيون ترف الاتجاه إليه من عدمه، وإنما ضرورة للتعامل مع واقع الدولة التي خلفها عبد الله صالح، ولمعالجة ميراث قرون من سطوة الواقع التقليدي المسؤول عن كثير مما آلت إليه أوضاع اليمن.
العرب اليوم |