صعدة برس - د. عيدروس نصر ناصر
تحت عنوان "هل يقود مؤتمر الحوار لحرب شمالية جنوبية قادمة؟" كتب عبد الناصر المودع مقالة طويلة نشرها في أكثر من موقع إلكتروني، تناول فيها ما أسماها الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها اللجنة الفنية للإعداد لمؤتمر الحوار الوطني في حق اليمن واليمنيين، عندما أقرت بمبدأ المناصفة الشمالية الجنوبية في قوام مؤتمر الحوار الوطني.
عنوان المقالة بصيغة السؤال ليس استفهاميا كما قد يتهيأ للبعض، بل إنه كما يقول أهل البلاغة توكيدي، لأن الكاتب يخلص إلى أن مقدمات الحرب الشمالية الجنوبية قد بدأت من خلال ما أسماه ما يتعرض له الشماليون من حرب في مناطق الجنوب، وهو ما سنتناوله في موقع لاحق من هذه المناقشة.
عبد الناصر المودع لا يبحث في مشكلة عويصة معقدة التركيب متداخلة العوامل والمؤثرات، اسمها القضية الجنوبية، وما تتضمنه من آلام ملايين الجنوبيين، من جراء مظاهر الظلم والكبت والقمع والتهميش والإقصاء القسري والسلب والنهب والعبث بالتاريخ والثروات والهوية، بل يبحث عن جزئية يمكن القول إنها تافهة، هي جزئية المناصفة التي لا تشبع جائعا ولا تغني فقيرا ولا تنصف مظلوما ولا تردع ظالما ولا تنهي عن منكر ولا تعيد حقا منهوبا إلى صاحبه، . . .إنه يحسد الجنوبيين على الـ"لا شيء" الذي تطوعت لهم به اللجنة الفنية للحوار، ويغض النظر عن كل شيء سلب منهم على مدى عقدين من الزمن تحت ذريعة الدفاع عن (الوحدة) "المعمدة بالدم".
يقول الباحث : ""أن صيغة المناصفة، حرفت المؤتمر عن فكرته وأهدافه، وجعلت الجنوبيين مستقطبين باتجاه هويتهم الجنوبية، وهو ما سيؤدي إلى استقطاب شمالي مضاد، يكون خميرة لصراع قادم بين الشماليين والجنوبيين".
إن مناقشة كهذه "تتجاهل الجمل وتبحث عن الإبرة"، فهي تتجاهل كل المظالم ومظاهر الغبن والسلب والنهب والإقصاء والتمييز والازدراء وتزييف الوعي وتزوير التاريخ الذي تعرض له الجنوب والجنوبيون منذ العام 1994م ولا يرى فيها خميرة للصراع الرأسي والأفقي الذي تعيشه اليمن والثورة السلمية العارمة التي تجتاح الجنوب منذ العام 2007م بل إنه يرى خميرة هذا الصراع في المناصفة التي لا يعيرها الجنوبيون أدنى قدر من الاهتمام لأنها بالنسبة لهم لا تقدم ولا تؤخر ويؤكد غالبيتهم مرارا أنها لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد.
وفي سياق مناقشة الكثير مما ورد في مقالة عبد الناصر المودع أشير هنا إلى إنني أيضا لست مع مشروع المناصفة ولكن ليس من زاوية أنها هي من يهدد وحدة اليمن ويشجع على الانفصال، بل من زاوية أن الجنوبيين عندما أشعلوا ثورتهم في العام 2007م لم يكونوا يطالبوا لا بنصف مؤتمر الحوار ولا بنصف مجلس النواب ولا برئيس جنوبي، ولا حتى بحكومة كلها من الجنوبيين، ببساطة هم قاموا بثورتهم، التي يتجنب الأخ عبد الناصر الحديث عنها، ويتجاهل الإشارة إلى القمع والتنكيل الذي ووجهت به، إنما قاموا بهذه الثورة، لاستعادة ما سلبه منهم أبطال حرب 1994م، التي لم يأت الأخ عبد الناصر على الإشارة إليها ولو لمرة واحدة، لا أدري هل تجاهلا أم هروبا من الاعتراف بجناية الجناة أم تسترا عليهم، أم إنه لا يعلم بهذه الحرب، وما تركته من نتائج كارثية على اليمن كل اليمن.
يقول المودع في معرض مناقشته للحرب المحتملة بين الشمال والجنوب "اختزلت كل مشاكل اليمن، لتبدوا ( والصحيح لتبدو) وكأنها صراع مناطقي بين الشماليين والجنوبيين" ويختتم المودع هذه الفقرة بالقول أن مشكلة الانفصال ليست سوى "مشكلة سياسية، تتعلق بهوس القادة الانفصاليين بالسلطة، وفشل دولة الوحدة في إيجاد نظام سياسي ناجح يحقق العدالة والمواطنة المتساوية".
قد نتفق مع الباحث أن دولة الوحدة فشلت في إيجاد نظام سياسي ناجح يحقق العدالة والمواطنة المتساوية لكن القول أن الذين ينادون بالانفصال، وأنا هنا لست منهم ولا بصدد الدفاع عنهم، مهووسون بالسلطة إنما هو قول مجافٍ للحقيقة لأن هؤلاء، للأسف الشديد هم بالملايين ولا يمكن أن يكون مليون أو مليونا مواطن مهووسين بالسلطة، وإذا كان يقصد القادة النازحين فقد كانوا في السلطة وجاءوا طوعا إلى ما اعتقدوا أنه مشروع وطني لكل اليمنيين وكان بإمكانهم الاحتفاظ بهذه السلطة دونما حاجة لكل هذا الصخب والإزعاج ، أن الذين ينادون بالانفصال هم ضحايا ظلم وتعسف وقمع وتنكيل وحرمان جاء تحت مسمى (الوحدة) التي لم تعد تعني لهم شيئا بعد أن خسروا كل شيء دون أن يضفروا حتى بالفتات، الذي استكثره عليهم أبطال الحرب وأساطينها.
كان كاتب هذه السطور قد قال مرارا أن القضية الجنوبية ليست قضية صراع شمالي جنوبي كما إن الظلم الذي تعرض له الجنوب والجنوبيون لم يكن من كل الشمال وكل الشماليين وهي مسألة بديهية، بل من قبل قلة متنفذة استكملت نهب الشمال واستغلت انتصارها في حرب عبثية حمقاء لكنها مدمرة، حرب أوجدت لهذه الأقلية ساحة أوسع وأغنى وأكثر دسما للنهب هي الجنوب، وهذه القلة قد تكون ذات أغلبية شمالية لكن فيها جنوبيون ساهموا بفاعلية في ما تعرض له الجنوب من مآسي على مدى عقدين من الزمن، ومن هنا فإنه سيكون من الغباء عرض المشكلة على إنها صراع بين الشماليين والجنوبيين، الذين هم في غالبيتهم ضحايا ممارسات وسياسات هذه القلة.
ويستطرد المودع مبشرا بحرب قادمة بين الشمال والجنوب "وقد بدأت بوادر هذه الحرب بالحرب العنصرية، الباردة والساخنة، التي تُـشن في الجنوب ضد الشماليين".
لا يخفى على كل ذي عينين ما في هذه العبارة من تحريض مقيت على مواطني الجنوب في إطار التهليل للحرب والتبشير بها، لكنني أؤمن أن عقلاء اليمن من شماليين وجنوبيين يعلمون جيدا أن مواطني الشمال والجنوب كلهم أبرياء من اللعبة القذرة التي أدارتها الدوائر المخابراتية بغرض إشعال الحرب بين المواطنين على أساس شطري لكي يتمكن القائمين على هذه الدوائر من الاستمرار في نهبهم لليمن بادعاء دفاعهم عن الوحدة والجمهورية والديمقراطية والثورة، بعد أن أفرغوا هذه المعاني النبيلة من كل مضامينها وحولوها إلى يافطات للتستر على فسادهم ومتاجرتهم بثروات البلد وخيراتها وقوت أبنائها.
ولا بد هنا من إدانة أي عمل إرهابي يقوم على أساس عنصري أو شطري أو مذهبي أو مناطقي أو حتى قبلي أو قروي، ومن العجيب أن كل وزراء الداخلية منذ رشاد العليمي ومطهر المصري حتى عبد القادر قحطان، ظلوا وما يزالون يستبشرون عندما يسمعون عن اعتداء تعرض له أي مواطن ينتمي إلى محافظات الشمال في مناطق الجنوب لكن الغريب أن أحدا من هؤلاء الذين كانوا يعتقلون في اليوم الواحد الآلاف من نشطاء الحراك السلمي لم يقبض على مجرم واحد ممن ارتكبوا تلك الجرائم، وهناك من قال أن بعض المتهمين في تلك الجرائم ما يزال يستلم مرتباته من وزارة الداخلية ومن الأمن السياسي والقومي، لكن الأغرب أن الأخ عبد الناصر لم يسمع عن أكثر من ألفي شهيد جنوبي قتلوا على أيدي قوات الأمن الرسمية، فهؤلاء لا يعنونه لأنهم لا ينتمون إلى اليمن التي يقصدها، هؤلاء يجوز قتلهم وإن أتى على أيدي أجهزة حكومية تتقاضى ميزانياتها من الضرائب التي ندفعها نحن والضحايا معا. بينما يتباكى على بعض الحوادث التي يدعي أن الجنوب يشنها على الشماليين من خلال أفعال إجرامية مشبوهة الدوافع والأسباب وهي مدانة من الجميع، . . . . . . .هل رأيتم انفصالية أكثر من هذا؟؟
ويتساءل عبد الناصر "وكيف سيتم تمريرها (أي قرارات مؤتمر الحوار) عبر الاستفتاء على الدستور، والذي قد ترفضه الأغلبية الشمالية والمؤيدين للوحدة في الجنوب" إن عبد الناصر واثق إن الأغلبية الشمالية سترفض الدستور المقترح، لكنه لم يقل لنا لماذا هذه الأغلبية شمالية فقط، ولماذا ترفض الدستور، ولم يكلف نفسه عناء البحث عن الإجابة على السؤال: لماذا لا ترفضه الأغلبية الجنوبية أيضا؟
لا أستطيع أن أتهم الأخ عبد الناصر بالكسل الذهني وعدم الدراية بأسباب كل هذا، لكنني أعتقد إنه يتعمد الهروب من البحث عن السبب الرئيسي، وأعرف، أو على الأقل هذا ما أظنه، أن الأخ عبد الناصر ليس من أبطال حرب 1994م وليس ممن اشتركوا في نهب الجنوب لكنه يبدو لا يرغب في إغضاب هؤلاء خاصة وإن جزءا منهم ما يزال يتصدر مواقع صناعة القرار في يمن ما بعد ثورة 2011م وهو ما يدفعه إلى الحديث بقسوة عن من يسميهم "دعاة الانفصال" وهم هنا تقريبا أغلبية سكان الجنوب، وعدم التعرض ولو من بعيد لأبطال حرب 94 وناهبي ثروات الجنوب، وهم بالمناسبة شمالييون وجنوبيون، وليسوا فقط شماليين، وإن كانت حصة لصوص الجنوب هي أشبه بحصة المتسولين عند اللصوص الأثرياء.
وقبل اختتام هذه التناولة العاجلة لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق المهمة التي تمس جوهر مشكلة الصراع في اليمن حول القضية الجنوبية:
1. إن وجود نصف مندوبي مؤتمر الحوار من الجنوب لا يعني بأي حال من الأحوال أن كل هؤلاء مخلصين بنفس الدرجة للقضية الجنوبية، بل هناك من المشاركين الجنوبيين من لم يعترف بوجود قضية جنوبية، وإذا ما تحدث عنها فمن باب الاسترضاء والمجاملة لأنهم مثل الأخ عبد الناصر لا يقرون بالنتنائج الكارثية للحرب والجرائم التي أنتجتها "الوحدة المعمدة بالدم".،
2. إن المشكلة الأساسية في اليمن، وأقصد هنا ما يتصل بالقضية الجنوبية ليست في النصف أو الثلث أو الربع ، بل المشكلة هي في عدم الاعتراف بطبيعة القضية الجنوبية، وبمضمونها وأبعادها، والإصرار على إن الوحدة التي صنعتها حرب 1994م هي نهاية التاريخ وهي الحالة المثلى التي ينبغي العض عليها بالنواجذ ورفض الإقرار بأي بدائل يمكن أن تجنب اليمن من ناحية مخاطر التمزق والتشرذم والتفكك، ومن ناحية أخرى مآسي الاستحواذ والوصاية والاستئثار الذي أنتجته عفود متواصلة من أنظمة الحكم الفاشلة.
3. للأسف الشديد هناك الكثير من المثقفين والباحثين ممن ينظرون إلى (الوحدة) وكانها صنم يجب أن يعبد، وعلى الناس عدم التحدث عنه إلا بلغة القداسة والتبجيل، ولا ينظرون إليها على إنها مشروع بشري يخدم مصالح كل الناس ويعود عليهم بالرفاهية والنماء والتقدم والاستقرار والإخاء والتضامن والتعاون والاندماج الاجتماعي والوطني ويرفع من مقامهم ومكانتهم بين الأمم، وإذا ما أخفق في تحقيق ذلك فهو يصبح بلا معنى، أما إذا تحول إلى ذريعة للظلم والسلب والنهب والقمع والإقصاء فمن حق المتضررين أن يرفضوه، إن الوحدة التي يرفضها نصف الشعب اليمني هي وحدة مختلة يجب البحث فيها عن مواطن الخلل، وليس التحريض على الضحايا وشيطنة مطالبهم العادلة وتصويرها على إنها نزعات شريرة تجرى في جيناتهم الوراثية.
4. من المؤسف أن بعض الذين يتناولون القضية الجنوبية من كتاب المحافظات الشمالية يتجاهلون أو يجهلون أن الوحدة التوافقية لم تعمر غير ثلاث سنوات كانت مملوءة بالأزمات والمشاحنات وجاءت الحرب لتقضي على ما تبقى لها من معاني، أما وحدة الحرب وما بعدها فهي وحدة المنتصرين الذين تحول أغلبهم بين عشية وضحاها إلى مليارديرات بفضل نهبهم للجنوب وهم اليوم من يدعي الحرص على الوحدة وحمايتها بينما هم لا يحمون إلا غنائمهم التي حققوها بفضل سياسات النهب والسلب، وينسى هؤلاء (الكتاب) أن الجنوب كان حتى قبل أربع سنوات من الحرب دولة لها مكانتها واسمها بين الدول ولست قطعة أرض منسية عثر عليها أبطال الحرب فاستولوا عليها لأنها بلا أهل ليتصرفوا بها كما فعلوا منذ العام 1994م حتى اليوم.
5. وأخيرا إذا كان الأخ عبد الناصر المودع يرى في الفيدرالية كشكل من أشكال الاتحاد بين اليمنيين أمرا يقر بالانفصال فإننا لا نلوم أثرياء الحرب الرافضين لها، فهم على الأقل ينطلقون من خوفهم على الغنائم التي حققوها من نهب الجنوب، لكنني لا أفهم لماذا يرفضها باحث يدعي الحيادية والحرص على العدالة ودولة المواطنة، وأضيف هنا أننا ربما نحتاج إلى معجزة لإقناع المواطنين الجنوبيين للقبول بهذه الفيدرالية التي يرفضها الأخ الباحث.
خاصرة شعرية:
بي من مرارات الأسى موسوعةٌ ولمفردات القـــهر عندي معجمُ
قد كنتُ معـــــصوم الخطى لكنني بعت الذي يجدي بما لا يعصمُ
ومضــيتُ في غير الطريق لأنني ضيَّعتُ ما يغـــني بما لا يطعمُ
وغدوت مشــــــلول الكيان لأنَّني أعطيت ما أدري بما لا أعلمُ
متـــــشائمٌ من حيث كان تفاؤلي ومن المآسي كيف لا أتشاءمُ
|