صعدة برس-وكالات - كتب/ ستيفن كوك
سارت العلاقات المصرية-الأمريكية مدة أكثر من ثلاثة عقود وفق نمط استاتيكي، لم يخلُ بالطبع من موجاتٍ من المد والجزر كانت ذات تأثير محدود على طبيعة العلاقة ومسارها. وجاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 لتمثل نقطة تحول في العلاقات المصرية-الأمريكية، تزعزعت معها ثوابت العلاقة بين البلدين، وهو الأمر الذي تعمّق بشدة ووصل إلى مرحلة الأزمة عقب الثالث من يوليو 2013.
ومع ظهور تحليلات تشير إلى انتهاء مكانة مصر الاستراتيجية في السياسة الأمريكية، يبدو أن هناك رقمًا هامًّا في المعادلة قد غاب عن تلك التحليلات، وهو قناة السويس. ذلك الممر المائي (الذي يبلغ طوله 120 ميلا) الذي يُعد حلقة الوصل الحيوية بين أوروبا وأسيا، وما زال يمثل رصيدًا استراتيجيًّا هامًّا لمصر.
في هذا الإطار، يطرح ستيفن كوك، الزميل الرئيسي المتخصص في دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية، في مقالة له بمجلة "فورين أفيرز" تحت عنوان: "لماذا لا تزال قناة السويس هامة؟"، رؤية حول مدى احتفاظ قناة السويس بأهميتها الاستراتيجية إلى الآن، وتأثيرها على طبيعة العلاقات المصرية-الأمريكية، ومدى واقعية افتراض أن أهمية مصر الاستراتيجية قد تراجعت من المنظور الأمريكي.
المكانة التاريخية لقناة السويس
يفتتح كوك تقريره بالحديث عن المكانة التاريخية لقناة السويس، فيقول: إن إنشاء قناة السويس في النصف الأخير من القرن التاسع عشر قد ارتبط بالدبلوماسي الفرنسي فرديناند ديليسبس، والخديوي إسماعيل باشا، حفيد محمد علي، الجنرال العثماني الذي حكم مصر في الفترة من (1805 – 1848) ويعتبر مؤسسها الحديث. ويذكر كوك أنه وفقًا لـ"زاكاري كارابل" فإن فكرة إنشاء قناة السويس تعود إلى عام 1798 عندما غزا نابليون مصر، ولكنه تراجع عن الفكرة عندما رأى أنها غير مثمرة.
وبعد ثلاثين عامًا من الحملة الفرنسية، حاول مهندس فرنسي آخر يُدعى "بارتيليمي" تحويل مشروع قناة السويس إلى حقيقة واقعة، ولكنه لم يُوفق. وفي خمسينيات القرن التاسع عشر نسب ديليسبس مشروع ذلك المهندس الفرنسي لنفسه، وبدأ يسعى للحصول على دعم سعيد باشا لتمويل المشروع.
وبعد عشر سنوات من البناء الشاق؛ افتتح الخديوي إسماعيل قناة السويس عام 1869، في احتفال كبير أُقيم في بورسعيد. فقد كان الخديوي إسماعيل يسعى من خلال تلك المشروعات الكبرى إلى تحقيق ما كان يصبو إليه محمد علي وسعيد باشا، وهو تحديث مصر، وتخليصها من التبعية للإمبراطورية العثمانية. لذا عمد إسماعيل إلى استدعاء ضباط من الجيش الأمريكي بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، وذلك لتدريب الجيش المصري، على أمل منح مصر المزيد من الاستقلالية، بعيدًا عن الإمبراطورية العثمانية، ولكن فشلت المهمة العسكرية الأمريكية بسبب المقاومة الذي لاقاها المشروع التدريبي من قبل العديد من الضباط الأتراك والشراكسة داخل الجيش المصري المعارضين لجهود إسماعيل الاستقلالية.
ويؤكد كوك أن طموح إسماعيل للاستقلال بمصر بعيدًا عن الإمبراطورية العثمانية قد كلفها المزيد من الخسائر، فقد أهدر الخديوي موارد مالية ضخمة على تطوير القاهرة لكي تضاهي كبرى العواصم الأوروبية، وكذلك على مشروع السكك الحديدية، ومشاريع البنية التحتية الأخرى، وتوسيع حدود مصر جنوبًا في السودان، مما أخلّ بشدة بالموازنة العامة المصرية.
ويشير كوك إلى أنه في عام 1875، وتحت ضغط الديون، اضطر إسماعيل إلى أن يبيع أسهم مصر في قناة السويس للمملكة المتحدة. وكذلك اضطر إلى قبول وجود لجنة بريطانية فرنسية مشتركة تشرف على تسديد ديون الخديوي لمختلف المؤسسات المالية في أوروبا. وقد مكّنت تلك اللجنة كلا من بريطانيا وفرنسا من تعميق تدخلهما في الشئون المصرية، وهو التدخل الذي انتهى بإعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1882.
وهنا أكد كوك أن مصر لم تكن ذات أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لبريطانيا أكثر من كونها وسيلة لتعزيز مصالح بريطانيا الكبرى في باقي دول العالم، وهو ما اتضح عندما أعلن رئيس الوزراء البريطاني "بنيامين دزرائيلي" في مجلس العموم، بعد شراء أسهم مصر في قناة السويس، أن ممتلكات بريطانيا الاستعمارية في آسيا، وخاصة في الهند، قد تعززت.
ويرى كوك أنه على الرغم من أوجه القصور التي اعترت الأداء السياسي لإسماعيل باشا، والذي أدى في النهاية إلى وضع مصر تحت سيطرة القوى الاستعمارية حتى خمسينيات القرن العشرين، إلا أنه أيقن أن إنشاء القناة سيكون له بالغ الأثر على مصر على المدى الطويل، من حيث جعلها مركز التجارة العالمية، ورقمًا هامًّا في معادلة القضايا الجيوستراتيجية حول العالم.
وبعد ثمانية عقود، استحوذت بريطانيا خلالها على مكتسبات مصر في قناة السويس، واستطاع جمال عبد الناصر عام 1952 ومعه مجموعة من الضباط "الضباط الأحرار"، القيام بانقلاب، أطاحوا من خلاله بالملك فاروق، ونفيه خارج البلاد. ولكن نهاية النظام الملكي المدعوم من بريطانيا لم يكن لينهي نفوذها بشكل نهائي، حتى أعلن جمال عبد الناصر في 26 يوليو 1956 تأميم قناة السويس، واستخدام جميع إيراداتها في المشروعات التنموية في مصر، خاصة مشروع السد العالي. وقد تعززت مكانة قناة السويس في التاريخ المصري، عندما اقتحم المصريون التحصينات الإسرائيلية على الضفة الشرقية من هذا الممر المائي في بداية حرب أكتوبر 1973.
جدلية العلاقات المصرية-الأمريكية
تناول كوك آراء بعض المراقبين الذين رأوا أن اضطرابات السنوات الثلاث الماضية من تاريخ مصر قد أدت إلى تناقص الأهمية الاستراتيجية لمصر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. فاضطرابات المنطقة قد أدت إلى دحض العديد من الثوابت وموازين القوى المتعلقة بالشرق الأوسط. وهنا أكد كوك أن حيوية مكانة مصر في السياسة الأمريكية ما زالت مرتبطة بالمكانة والأهمية الآنية لقناة السويس في السياسة الدولية. لذا لا بد من التعامل مع قضية افتقاد قناة السويس لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية بنظرة تتعدى مكانة القناة في التاريخ المصري، وبفهم أعمق للكيفية التي شكّلت بها القناة علاقات مصر مع العالم الخارجي.
وتحدث كوك عن أن القادة والمخططين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا ينظرون إلى قناة السويس من نفس منظور القوى الاستعمارية في الماضي، على أنها عنصر حاسم في التجارة العالمية، وممر حيوي للسفن الحربية الأمريكية بين البحر المتوسط والخليج العربي. أما الآن، مع تعليق الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية لمصر بعد 3 يوليو 2013، وتدهور الوضع الأمني في سيناء، يثور تساؤل هام حول مدى قدرة قناة السويس على الاحتفاظ بأهميتها الاستراتيجية لدى الولايات المتحدة.
وفي حين تتزايد الهجمات المسلحة على قوات الأمن والمنشآت المصرية في شمال سيناء، يبدو من المحتمل أن تنتقل تلك الهجمات إلى قناة السويس لمهاجمة السفن الكبرى، وعرقلة تشغيل القناة، وهو ما دفع القوات المسلحة المصرية إلى تخصيص موارد كبيرة لتأمين القناة، والتقليل من احتمالات وقوع هجمات مسلحة بها، خاصة مع تلك الصعوبات التي يواجهها الجيش المصري في التعامل مع الهجمات المسلحة التي تقع في سيناء. ورغم كل ذلك، ما زال المسئولون في مصر والولايات المتحدة يرون أن احتمال القيام بعمليات إرهابية لتعطيل الملاحة بالقناة "احتمال ضعيف".
ويشير كوك إلى أن الجدل الدائر حاليًّا حول المساعدات الأمريكية لمصر بعد 3 يوليو 2013، يتوقف في شقه الأكبر على قناة السويس. فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا أن التغيرات في السياسات الإقليمية والاقتصاد العالمي قد جعلت مصالح الولايات المتحدة في قناة السويس تبدو أكثر تواضعًا، فإن توقف الولايات المتحدة عن تقديم المساعدات للمؤسسة العسكرية المصرية -وبالتالي تقليل قدرة مصر على تأمين القناة- لن تكون له عواقب وخيمة على الولايات المتحدة. وهذا من شأنه حل مشكلة مركزية بالنسبة لواشنطن في العقد الماضي، وهي التوفيق بين رغبتها في تعزيز الديمقراطية في مصر، ومخاوفها الأمنية على المدى القصير، وهو ما قد يجعل صناع القرار في الولايات المتحدة على استعداد لخفض المساعدات العسكرية التي تقدر بـ1.3 مليار دولار سنويًّا، لإجبار القيادة المصرية على اتخاذ خطوات حقيقية نحو التغيير الديمقراطي.
الأهمية الجيوستراتيجيةلقناة السويس من المنظور الأمريكي
يرى كوك أن حديث بعض المراقبين عن تراجع المكانة الحيوية لقناة السويس هو من الأمور التي لا تتسق مع الواقع. فعلى الرغم من كل التغييرات التي يمر بها الشرق الأوسط، واتجاه أوباما في سياسته الخارجية نحو آسيا، وتزايد أهمية الأفكار والمعرفة بدلا من البضائع المحمّلة في الحاويات؛ فإن قناة السويس لا تزال تحتل مكانة متميزة على مستوى التجارة الدولية. ففي 2008 مرّ بها ما يقارب 21415 سفينة، ومع تراجع حركة التجارة الدولية، تراجع عدد السفن المارة بها ليبلغ 17 ألف سفينة في عام 2012، كما استحوذت قناة السويس على 8% من التجارة العالمية البحرية، وزودت إيراداتها الخزينة المصرية بـ5.12 مليار دولار عام 2012.
ويبدو أن سلاح البحرية الأمريكي ليس في حاجة ماسة لقناة السويس، فالعسكريون هناك لديهم محيطان يُتيحان لهم المرونة في وضع الخطط العسكرية، فالسفن تستطيع التحرك من المحيط الهادي إلى الهندي ومن بعده إلى الخليج العربي، في حالة حدوث أزمة هناك. ولكن في حالات الطوارئ التي تتطلب حركة السفن البحرية من وإلى البحر المتوسط بسرعة، فإن الرحلة من بحر العرب إلى الموانئ الفرنسية مرورًا بقناة السويس تقطع مسافة ما يقارب 4700 كلم، أما الإبحار عن طريق رأس الرجاء الصالح فإنه يتطلب ستة آلاف كلم إضافية، وهو ما يعني زيادة الرحلة بمقدار ثمانية أيام، إذا ما سارت السفن بأقصى سرعة لها. لذا يؤكد كوك أنه من منظور سلاح البحرية الأمريكي، فإن قناة السويس تمثل الطريق الأكثر كفاءة وفعالية وتوفيرًا للموارد.
وفي النهاية، يتوصل كوك إلى استنتاج مفاده أنه إلى أن يأتي الوقت الذي تعيد فيه الولايات المتحدة التفكير في التزاماتها في أوروبا، وشرق المتوسط، وإفريقيا، والخليج العربي، وجنوب آسيا؛ فإن قناة السويس ستظل رصيدًا استراتيجيًّا لا مثيل له بالنسبة لضباط البحرية الأمريكية وصناع القرار.
عن/المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجيه
|