نجيب غلاب -
الحزب الاشتراكي فقد الكثير من قوته وهيبته لا لأنه فقد السلطة، بل لأنه تخلى في معمعة الصراع السياسي عن مشروعه الفكري والسياسي وفقد القوى الاجتماعية التي كان يمثلها، وهي قوى عصرية وحديثة في أغلبها..
لقد حاول الحزب بشكل جدي خلال فترة قصيرة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية أن يتغير ويسلخ جلده السابق لصالح رؤية تجديدية متوائمة مع التحولات في بداية التسعينيات لصالح المشروع الليبرالي الديمقراطي دون أن يتخلى عن العدالة الاجتماعية بل وحاول الحزب أن يتصالح مع الدين والعروبة.
ورغم كل ذلك إلا أن أزمات الحزب تراكمت وفقد توازنه وفقد قدرته على المواجهة، فالتحول لم يكن حقيقيا ولا عميقا ولم يمس كثيرا الوعي السابق الذي شكلته السنون وظل الخطاب الجديد دعائي تم توظيفه في الصراع السياسي، وهذا ربما يفسر سلوك الحزب لاحقا، فقد تمكنت أقلية نخبوية من السيطرة عليه وتوجيه قوة الحزب لحماية مصالحها لا مصالح القاعدة الاجتماعية التي كان يمثلها الحزب، هذه المصالح النخبوية تم إعادة تشكيلها في طفرة الصراع لصالح الانفصال كخيار لا مفر منه لمواجهة الخسارة التي يمكن أن تلحق بهم إذا استمروا في الوحدة.
كانت البداية في توريط الحزب في الحيز الجغرافي الجنوبي والتخلي عن جزء من تكوينه الشمالي وهم القوة الرادعة التي كان بإمكانها حماية الحزب في صراع المصالح والأفكار، وأدى عزل القوى اليسارية الشمالية والتحيز والالتصاق بالجنوب ـ رغم وجود قوى جنوبية أخرى فاعلة في الساحة وقوى واسعة متعاطفة مع الحزب في المحافظات الشمالية ـ إلى إضعاف الحزب ومشروعه السياسي، فالانتماء المناطقي للحزب الذي حاول البعض من خلاله خلق عصبية تنقذ نخبة الحزب، هي المعضلة التي دفعت الحزب إلى تبني سياسات على مستوى الواقع مناقضة لفكره وانتهت بإعلانه الانفصال كنتاج طبيعي لتوجهاته الجغرافية التي خنقت مشروعه الحضاري الذي كان بحاجة إلى وقت لإثبات وجوده، والمسألة الجنوبية في وضعها الراهن هي نتاج طبيعي لتخبط الحزب وتناقضاته ونتاج لتغليب مصالح النخب الآنية.
إن سعى الحزب في اللحظة الراهنة لنشر الاضطراب والفوضى في المجال السياسي وتكرار تجربته السابقة في التعامل مع واقعه إنما يدل على فشله في إعادة بناء مشروع سياسي اجتماعي متماسك، وعلى ما يبدو أن شعوره بالضعف بعد الضربات التي تلقاها وخوفه من حلفائه قد تدفعه لتبني منهج سياسي غوغائي لكسب الجماهير والتحرك في المعضلة التي قتلته وهي معضلة تمثيله للجنوب وتفعيل ثقافته اليساري بوعي قبلي تقليدي.
لم تتمكن النخبة الوحدوية في الحزب رغم محاولاتها من إنقاذ الحراك الجنوبي من الغرق في توجهات محطمة للمجال السياسي الوحدوي الديمقراطي السلمي، فالاتجاه الغالب على الحراك هو السير في مسارات الفوضى وتهديد السلم الاجتماعي، وهنا يمكن القول أن الحراك الجنوبي كان بإمكانه أن يكون حامل سياسي واجتماعي لمن يمثلهم من خلال المشروع الوطني الوحدوي بل وأن يقود نضال سياسي مدني يشمل الساحة اليمنية كلها.
ويمكن القول أيضا إن الحزب كان بإمكانه أن يرشد من الفعل السلبي للحراك على مستوى الخطاب والعمل، إلا أن الاعتماد على الغرائز البدائية في النضال وسيطرة الروح الانفصالية على قيادة الحراك وتناقضاته الداخلية لانعدام المشروع أغرقت الحراك في عصبية جغرافيه قاتلة وفي كراهية وحقد مناقض لأي شعارات إنسانية مرفوعة، وكل ذلك أدى إلى عزل الحزب عن الحراك، والأخطر أن الحزب بعد أن أضاع مشروعه في أروقة المشترك الغامضة والقاتمة وبعد أن تكشفت له خرائط اللعبة وبعد أن فقد قاعدته الجماهيرية جعلته مؤخرا ينخرط في الحراك ويرى منه ضرورة لإنقاذ الحزب من مآسيه، وفي حقيقة الأمر أن اندفاع الحزب لتأييد عنف الحراك تحت ضغط الضعف ربما يقود نفسه إلى الانتحار.
واتجاه الحزب نحو الحراك من ناحية واقعية كان نتيجة طبيعة، فالحزب لم يحقق أي مكاسب في نضاله من خلال المشترك بل أن ذلك أضعفه وافقده الكثير من أنصاره ودفعت قاعدته الجماهيرية أما أن تنسحب أو تلتحق بالمؤتمر أو بالحراك، والملاحظة الجديرة بالاهتمام أن المشترك يقدم نفسه كبديل للسلطة من خلال خطاب ثوري عائم في مقولات غاضبة ومشروع لا يعبر عن كياناته، بل أن مشروع المشترك وطريقة نضالهم جعله في نظر الكثير مشروعا يؤسس للعنف والصراع.
ومن الواضح أن المشترك بمقاطعته للانتخابات يرفض أن يقدم مشروعه للجماهير وهي وحدها من يحول المشترك إلى بديل فعلي أو شريك حقيقي لا خطابه الغوغائي ودعواته المتكررة للفوضى وسعيه مؤخرا لخلق سلطة موازية للدولة من خلال التشاور الوطني وعسكرة القبيلة وتحريض الحراك على توسيع ممارساته العنيفة.
مشكلة الحزب الاشتراكي أن مشروعه الحضاري الذي حاول أن يبنيه في بداية الوحدة ضاع في متاهة الصراعات وعجز الحزب عن تقديم رؤية نقدية لتاريخه وقاده ضعفه إلى التورط في نهاية المطاف في تحالفات مع قوى تناقض مشروعه السياسي فأصبح بلا مشروع من ناحية واقعيه، وفي ظل التصاقه بالجنوب واتجاهاته الراهنة لمحاولة تزعم الحراك الجنوبي بوضعيته الراهنة فإن ذلك يقود الحزب نحو عدمية سياسية ربما تفقده وجوده كتيار وطني بإمكانه ان يقود مشروع الحداثة في اليمن.
ومهما كان واقع الحزب السيئ فإنه قادر على المقاومة والنضال السلمي ويملك مؤهلات كثيرة لإثبات وجوده، فاليأس لا يبرر الدعوات التي أطلقتها القيادة المؤيدة للفوضى في الجنوب لأن ذلك يهدد السلم الاجتماعي وهي دعوة غير مباشرة لإجهاض الديمقراطية وتحويل السياسة في اليمن إلى حالة من الحرب الدائمة كما أنها تشرعن للقتل والدمار.
وختاما يمكن القول إن المثقف عندما يتحول إلى مناضل سياسي وتهيمن عليه مشاعر الهزيمة واليأس فإنه يفقد هيبته الفكرية وربما قناعاته السلمية، ويقترب كثيرا من غوغائية جهلاء السياسة وانتهازيتهم الآنية، وأيضا يحاصر أفكاره الناضجة في صراعات الواقع ليفقد اتزانه وروحه المثالية في واقعية مقيتة. فاللغة الانفعالية الداعية إلى التحريض على العنف ونشر الفوضى للضغط على الحاكم لتحقيق الأهداف تعبر عن عدمية سياسية نتائجها الفعلية هي إعاقة التغيير وتقوية النزعات السلطوية في البلد.