صعدة برس-متابعات - -نائف حسان
مقاتلو الحوثي على الأبواب. حركة الناس عادية في العاصمة صنعاء؛ إلا أن منطقة "شملان" ليست كذلك. يُخيم شبح الحرب هنا؛ لأن تمدد جماعة الحوثي وصل إلى هذه المنطقة، التي تُعد حظيرة خلفية لنفوذ اللواء علي محسن الأحمر، العدو الأول للحوثيين.
الترقب واضح في وجود الناس، بمن فيهم الباعة، وجنود اللواء الأحمر، الذين عززوا من وجودهم، ونصبوا متارس في نقطة تابعة لهم بعيدا عن "سوق شملان"، باتجاه العاصمة. علي محسن ورجاله في انتظار الحرب، التي لن تكون هذه المرة في مناطق الحوثيين في صعدة و"حرف سفيان"، بل في عقر دارهم هم، وبالقرب من عش الدبابير التابع لهم: مقر الفرقة الأولى مدرع المنحلة.
صاعدت ربكة الانتظار المتجلية في مقاتلي علي محسن من حالة التوتر البادية على "سوق شملان"، ووجوه المارة والمتسوقين. وفي العاشرة من صباح أمس، لامس، لأول مرة، الحالة الإنسانية التي عادة ما تسبق الحروب. الجميع في انتظار الحرب، بما في ذلك "سوق شملان" المؤدي إلى "ضلاع".
أوقف جنود يتبعون اللواء الأحمر الشارع العام في "شملان"، كي يسمحوا لعربتين مدرعتين، وطقم عسكري، بالمرور. اتجهت هاتان المدرعتان والطقم نحو "ضلاع"، وفي جانبي الطريق كان هناك جنود في حالة انتشار تأكدت معها أن الحرب وصلت بالفعل إلى العاصمة. صعدت هذه القوة الطريق المؤدي إلى "معسكر الاستقبال"، فيما انعطفت أنا، ومعي أسامة ساري، يساراً في اتجاه قرية "ضلاع"، التي ينتمي إليها القات الضلاعي، والرئيس الأسبق أحمد الغشمي. توغلنا في القرية وطرقها الضيقة بحثاً عن شخص سأعرف فيما بعد أنه مشرف جماعة الحوثي هنا. ولمن لا يعرف، فهذه الجماعة تُعين مشرفين لها في كل منطقة يتولون إدارتها بصلاحيات أكبر من تلك الممنوحة لمدير المديرية.
انتظر الرجل حضور قيادي آخر في جماعته فضل أن يرافقه معنا في زيارتنا لمناطق المواجهات بين جماعتهما ومسلحي تجمع الإصلاح في مديرية همدان. حضر الرجل الآخر مع بندقيته، وبسبب الانتشار العسكري الكثيف، تمكنا من إقناعه بترك البندقية.
عندما عدنا إلى الطريق العام، وبدأنا الصعود فيها، لم نجد القوة العسكرية التي شاهدناها وهي تُغادر العاصمة. على قمة الجبل يمتد معسكر الاستقبال، يساراً. وإذا ما التفتنا إلى الخلف، ستكون منطقة "ضلاع" إلى اليمين، أسفل الجبل، وإلى اليسار تبدو أجزاء من العاصمة صنعاء.
إلى يسار الطريق، يمتد هذا المعسكر، الذي كان يتبع قوات الحرس الجمهوري المنحلة. يأخذنا الطريق صعوداً حتى يكون بإمكاننا مشاهدة مباني هذا المعسكر الواقعة ضمن سور طويل يغيب في ثنايا التعرجات الجبلية.
يُمكن مشاهدة حالة الاستنفار من المتارس التي تم استحداثها أمام بوابة هذا المعسكر، وفي المواقع المنتشرة على القمم الجبلية المتفرقة. إلى اليمين، يُمكن مشاهدة لاقط لرادار عسكري، ينتصب على قمة مرتفعة. كذلك يُمكن مشاهدة رؤوس رشاشات تظهر من مواقع جبلية متفرقة.
...
يفضي الطريق بنا، بعد دقائق، إلى طريق منحدر يُسمى "عقبة نعم". وبعد دقائق أيضاً، يفضي بنا الطريق المنحدر، والمتلوي، إلى نقطة يتمركز فيها جنود يتبعون قوات الأمن الخاصة (الأمن المركزي سابقاً). هذا هو آخر حضور سيادي لدولة الرئيس هادي، وحلفائه في تجمع الإصلاح؛ ذلك أن مسلحي جماعة الحوثي يتمركزون في نقطة تبعد نحو 200 متر عن هذه النقطة الأمنية.
يتمركز في النقطة الأمنية أقل من عشرة جنود، مدعومين بطقم وحيد. يبدو حضور جنود الأمن هؤلاء كحاجة شكلية؛ إذ يقتصر حضورهم على منح إشارات موافقة لمرور الجميع، مع حضور منكسر ووجل وغير مكترث. لا يفتشون السيارات المارة، لاسيما تلك الداخلة إلى العاصمة؛ لأنهم بلا سلطة مساندة تحفظ هيبتهم وتُمكنهم من أداء مهامهم.
ما بعد هذه النقطة الأمنية مباشرة، يقع "سوق نعم"، وهو عبارة عن بعض دكاكين، و"صنادق" من تلك المخصصة لبيع القات. شعارات الحوثي حاضرة هنا إلى جانب مقاتليه. على مخرج هذا "السوق" الرمزي، يتمركز مقاتلو الحوثي ناصبين نقطة تفتيش خاصة بهم وسط الطريق. يقف مسلحان وسط الخط، جوار شعار الجماعة، الذي رُفع على قطعة خشب أسندت بأحجار. توقفنا جانب الخط، وأخذ رفيقانا يتبادلان التحية مع المسلحين اللذين كانا وسط الخط. إلى اليمين، كان هناك "دكانين" كان يجلس أمام الأول منهما نحو عشرة مسلحين. آثار المعركة مازالت بادية على وجوه هؤلاء المقاتلين، الذين بينهم مراهقون كست وجوههم الغبرة.
بعد مسافة قصيرة، وصلنا إلى نقطة أخرى يتمركز فيها عدد من مسلحي الحوثي، عرفت أن بعضهم ليسوا من المنطقة. سرنا في طريق شبه مستوية، ثم بدأنا صعود "نقيل المنقب"، الذي يفضي إلى قاع فسيح يحمل الاسم ذاته. وإلى "مثلث قاع المنقب"، مررت بنقطتين أخريين لمسلحي الحوثي كانوا يحدقون في المارة دون إبداء أي تدخل، أو طرح أي أسئلة أمنية.
...
طيلة رحلتنا، كان يتلقى المشرف الحوثي اتصالات عدة، كان يتحدث فيها مع "مخبرون" يراقبون المنطقة والشارع العام. كان يتلقى معلومات عن حركة الجيش، وكنت أسمعه يسأل عن عدد القوة العسكرية التي خرجت من صنعاء، وإلى أين اتجهت. وتأكدت، بعد ذلك، أن مقاتلي جماعة الحوثي يراقبون الحركة العامة في المنطقة بدءا من "سوق شملان". وفي عملية المراقبة، يستخدمون وسائل عدة ضمنها. كان دليلنا في الزيارة يصدر توجيهات، وفي موقفين سمعته يتحدث إلى شخص طالباً منه التوجيه. وفي إحدى تلك المرتين، استفسر الرجل، من شخص كان يتحدث معه في التلفون، عما إذا كان بإمكاننا التقاط الصور. بعد انتهاء مكالمته، أبلغنا أنه بإمكاننا التقاط صور للمناطق فقط، في إشارة إلى أنه غير مسموح لنا بتصوير مقاتلي جماعته. حينها، عرفت أن دليلنا كان يعود طالباً التوجيه من مشرف حوثي أعلى منه، هو مشرف مديرية همدان ككل. وفي اتصالات تلفونية أخرى كان دليلنا يوجه من هم أدنى منه بالتزام ضبط النفس، وتجنب أي احتكاك مع قوات الجيش. وبينما كنا موشكين على إنهاء زيارتنا، أُبلغ الرجل أن طقما عسكريا أطلق رصاص على بعض أعضاء جماعته ما بين "سوق شملان" و"ضلاع"، فطلب من "أصحابه" ضبط النفس. وعند عودتي، عرفت أن جنديا يقف على رشاش أحد الأطقم أطلق رصاصا في الهواء عندما شاهد أحد الحوثيين وهو يحمل "بازوكا".
...
واصلنا طريقنا حتى "مثلث قاع المنقب"، حيث تفجرت المواجهات هناك، ظهر السبت الماضي، وسقط فيها قتلى وجرحى من الحوثيين والإصلاحيين. مازالت آثار الدماء باقية في الشارع الإسفلتي، مع "معابر" فارغة للرصاص. وجدنا آثار الدماء في موقعين، وعلى الجانب الأيمن عثرنا على "مشدة" مليئة بالدماء، وعليها آثار اختراق الرصاص. قال أسامة ساري إن هذه "المشدة" تتبع أيوب أحمد حمودي، القيادي الحوثي، الذي قتل في تلك الاشتباكات. بحزن، قال "ساري": "هذه مشدة حمودي، أنا أعرفها". وعندما كنا نلتقط الصور لمكان الاشتباكات في هذا المثلث، توقف شخص من أهالي المنطقة وأبدى أسفاً على عملية التقطع التي تمت هنا.
ظهر السبت الماضي، نصب مسلحون إصلاحيون نقطة في هذا المثلث. كان هناك حوثيون قادمون، على متن سيارتين "شاص" يستخدمونهما كأطقم دوريات، من "شبام كوكبان". أوقفهم مسلحو الإصلاح، وبعد مشادات وقعت اشتباكات قتل فيها 3 حوثيين، أحدهم "حمودي"، وهو قيادي حوثي في مديرية "حرف سفيان"، التابعة لمحافظة عمران، وأصيب 3 آخرون، فيما قتل 3 من مسلحي الإصلاح، وأصيب 2 آخران، كما قتل شخص سابع من أهالي المنطقة كان ماراً في المكان وقت الاشتباكات.
أحد حوثيي "همدان" تحدث بأسف عما جرى هنا، ظهر السبت. قال إنهم شعروا بالألم عندما سمعوا أن الإصلاحيين نصبوا هذا "الكمين" لرفاقه الحوثيين، الذين كانوا عائدين من "عزومة" في "شبام كوكبان". ويقول الحوثيون إن قناف القحيط، القيادي الإصلاحي المحسوب على اللواء علي محسن، كان خلف ذلك الكمين الذي أدى إلى مقتل "حمودي" واثنين آخرين من رفاقهم.
عصر اليوم ذاته (السبت)، قدم مسلحون حوثيون من جهة عمران، قاصدين الوصول إلى "مثلث قاع المنقب" للأخذ بالثأر لـ "حمودي" ورفيقيه. إلا أن مسلحين إصلاحيين نصبوا نقطة أخرى في مثلث مدينة حبابة الأثرية، ومنعوهم من الوصول إلى حيث يريدون. حدثت اشتباكات بين الجانبين، انتهت بسيطرة الحوثيين، في السابعة من مساء السبت، على "مثلث حبابة" المؤدي إلى "بني ميمون"، و"ثلا"، و"حبابة"، و"الصرم". ثم تمكنوا من السيطرة على منطقة "الصرم". وفي السابعة من صباح الأحد، فجروا المركز الديني الذي يتبع الإصلاح فيها، ودمروه بالكامل. كما فجروا منزل القيادي الإصلاحي قناف القحيط. والاثنين، بسط الحوثيون نفوذهم، بشكل كامل، على كل مديرية همدان، بعد فرار مسلحي الإصلاح منها.
بعملية تقطع وجريمة قتل تفجرت الحرب في "همدان"، وبالأمر ذاته تم تفجير الحرب بين الجانبين في مديرية أرحب، حيث نصب الإصلاحيون هناك، قبل أشهر، نقطة تقطع قتلوا فيها 3 حوثيين.
...
إلى اليسار، هناك طريق إسفلتي فرعي يؤدي من "مثلث قاع المنقب" إلى منطقة "ذرحان"، التي شهدت آخر المواجهات بين الجانبين، الاثنين الماضي. في هذه المنطقة دمر الحوثيون منزلين وديوان مقيل كبيرا ملحقا بأحدهما. يتبع المنزلان خالد الجماعي، وأخاه، الذي أظن أن اسمه أحمد. يمر الخط الإسفلتي بالقرب من منزل الجماعي، الواقع على يسار الخط ضمن منازل عدة متناثرة على تل صخري صغير. بالقرب من هذا المنزل يتمركز مسلحون حوثيون ظهر أحدهم وحول رقبته وخصره حزام مُرصّع بالرصاص. تم تدمير هذا المنزل، وديوان مقيل تابع لها، ويقع أعلى منه بأمتار باتجاه أعلى التل الصخري. كذلك، فجر الحوثيون منزل يقع بالقرب من الخط الاسفلتي في الأسفل، قيل لي إنه يتبع أخا خالد الجماعي. أدى تفجير منزل خالد إلى تضرر منزل آخر مجاور له.
غادرنا "ذرحان" في الوقت الذي بدأ فيه مسجدها الأذان لصلاة الظهر. توقفنا أمام المسجد، الواقع على مدخل القرية، لنسمع الهوية المذهبية لأذانه، وضحك رفاقي عندما سمعوه يقول: "حي على خير العمل". لقد عادت الهوية المذهبية لهذا المسجد، وهذا من الانتصارات التي يفاخر بها الحوثيون.
...
عدنا إلى "مثلث قاع المنقب"، ومن هناك انعطفنا يساراً سالكين الخط الاسفلتي المؤدي إلى "شبام كوكبان"، وقبل الوصول إلى هذه انعطفنا يميناً في اتجاه منطقة "الصرم"، التي دخلها الحوثيون مساء السبت، ودمروا فيها، صباح الأحد، مركزاً دينياً تابعا للإصلاح.
عندما فجر الحوثيون هذا المركز الديني قالوا إنه يتبع "التكفيريين"؛ غير أن وزارة التربية والتعليم، التي يرأسها وزير إصلاحي، أصدرت، الاثنين، بياناً أدانت فيه عملية التفجير هذه، وقالت إنها تمت لمدرسة حكومية (طارق بن زياد) يدرس فيها 490 طالباً وطالبة. وفيما اعتبرت وزارة التربية عملية التفجير هذه "حرب على التعليم والتحديث ومستقبل اليمن"؛ "حثت الأجهزة المختصة بالتحقيق في الجريمة وملاحقة المعتدين وتقديمهم للعدالة". وأمس، قال موقع "الصحوة نت"، الناطق باسم الإصلاح، إن النائب العام "وجه بضبط المتورطين" في تفجير هذه "المدرسة".
والاثنين، كانت "الشارع" نقلت عن مصادر محلية قولها إن الدور الأول لهذا المركز الديني يُستخدم كمدرسة، فيما يستخدم الدوران الثاني والثالث منه كمركز ديني تابع للإصلاح.
وخلال زيارتي لهذا المبنى، أمس، وجدت ما يؤكد ما سبق أن نشرته "الشارع". على الباب الخارجي لهذا المركز هناك لوحة صغيرة مكتوب عليها "مدرسة طارق بن زياد- الصرم- أساسي- ثانوي"، غير أننا وجدنا، بين ركام الخراب في الداخل، لوحة أكبر مكتوبا عليها: "دار القرآن الكريم والعلوم الشرعية بالصرم". والمعنى من هذا أن الإصلاح كان يستخدم جزءا من هذا المبنى كمدرسة، وجزءا آخر كمركز ديني، مستغلاً نفوذه القديم في "الدولة".
...
غادرنا "الصرم" سالكين طريق العودة عبر "قاع المنقب". وما بعد المثلث الواقع فيه، انعطفنا يساراً سالكين طريقا اسفلتيا باتجاه منطقة "حاز"، التي سيطر عليها الحوثيون مساء السبت، ودمروا، الاثنين، منزلاً فيها يتبع القيادي الإصلاحي قناف القحيط، الذي يتهمونه بالوقوف خلف "كمين" السبت.
منزل "القحيط" كبير، ويتمركز فيه مسلحون حوثيون. وجدنا سيارتي "هيلوكس" داخل "حوش" هذا المنزل، مع أكثر من 15 مسلحاً حوثياً. بدأت في التقاط الصور، ثم ناداني الصديق أسامة ساري طالباً مني الحضور إليه، وأثناء ذلك سمعته يذكر اسمي وهو يتحدث مع شخص كان يتوسط شخصين في "الغمارة" الخلفية لإحدى السيارتين "الهيلوكس". ومن داخل هذه السيارة رحب بي ذلك الرجل، فتصافحنا، ثم انصرفت لمعاينة الخراب الذي لحق بالمنزل. وبعد مغادرة هذه السيارة للمكان، عرفت أن من كان فيها هو يوسف المداني، القيادي الميداني المعروف في جماعة الحوثي، الذي يتنقل بشكل حذر ويحرص على عدم معرفة الناس بهويته.كذلك عرفت أن "الحاكم"، القيادي الميداني المعروف في الجماعة، يتواجد أيضاً في "همدان".
"المداني" متزوج من إحدى بنات حسين الحوثي، وشارك في جميع حروب الجماعة ضد الجيش. وطوال سنوات، اشتهر الرجل بإدارته للمعارك الميدانية، وكذلك الحال بالنسبة لـ"الحاكم". وخلال زيارتي الأخيرة إلى صعدة، قبل أكثر من شهر، عرفت أن هذين الرجلين أشرفا على الحرب ضد أولاد الشيخ الأحمر في "حاشد"، وظلا فيها لفترة بعد انتهاء الحرب من أجل ترتيب الوضع فيها، بما في ذلك اختيار مشرفي ومندوبي الجماعة في المناطق والقرى. والمؤكد أنهما انتقلا الآن إلى "همدان" للعب نفس الدور.
في طريق العودة إلى صنعاء، كانت مدينة "حبابة" الأثرية شامخة على يسارنا. كان مسلحو إحدى النقاط على وشك تناول وجبة الغداء، التي كانت تتضمن "بنت الصحن"، ما يعني أنهم ضيفوا من قبل أحد أهالي المنطقة. وعرفت أنه يتم توزيع القات لجميع مقاتلي الحوثي في نقاط انتشارهم وتمركزهم. وفي زيارتي السابقة إلى صعدة، عرفت أن الجماعة تتكفل بالنفقات اليومية لجميع مقاتليها، ثم تدفع لكل واحد منهم مبلغاً شهرياً. لهذا، يتجه كثير من شبان المنطقة الجغرافية الزيدية إلى الجماعة طلباً لما يسمى عندهم بـ"الجهاد"!وبالنسبة لكثيرين، أصبح القتال مع هذه الجماعة بمثابة فرصة عمل.
في طريق العودة انتبهت إلى وجود لوحة كبيرة في "سوق شملان" عليها شعار جماعة الحوثي (الصرخة). عندما رأيت هذه اللوحة تذكرت مدينة صعدة، ذلك أن شعارات الحوثي لا تنتصب على هذا الشكل إلا هناك. وفي "ضلاع" شاهدت "الصرخة" منتصبة على هضبة تقع شمال هذا السوق. ما الذي سيفعله علي محسن؟
....
عندما توقفت في "سوق شملان"، بداية هذه الزيارة، صباح أمس، سمعت رجلا مسنا يتحدث عن "أنصار الله". حالة التوتر بادية على الرجل؛ مع ذلك حاول التغلب عليها بإبداء قدر من عدم الاكتراث بما يجري. أبدى قدراً بالغاً من التبرم، وأخذ يتحدث مع أحد الباعة المفرشين بكلمات فهمت منها أنه مناصر للحوثيين. ويُمكن التعرف على الحوثيين ومناصريهم ببساطة من الاسم الذي يطلقونه على حركتهم. فعندما يتم استخدام اسم "أنصار الله" للإشارة إلى الحوثيين، فهذا يعني وجود استجابة ذهنية للتعامل مع هذه الجماعة بتقدير الهدف منه إخراجها من ماضيها الأسري إلى ما هو أوسع. و"أنصار الله" ليس مجرد اسم دلع خاص بالحوثيين، بل هو عملية ذهنية واعية تُحاول استيعاب حضورهم الاجتماعي والسياسي الجديد. في البداية كانوا حوثيين، لأنهم اكتسبوا هويتهم كأتباع وأنصار لحسين الحوثي، ومدافعين عنه وحاملين لإرثه الذي خلفه في ملازمه الدينية. ارتبطت حالة تجليهم الأولى بتوصيف رسمي وسمهم بـ "المتمردين" ووضعهم تحت طائلة الملاحقة. إلا أنهم انتقلوا، بعد ست حروب مع الجيش، من حالة تجليهم الأولى هذه إلى حالة جديدة أصبحوا معها قوة عسكرية حاكمة لمجتمعاتها.
بدأ حسين الحوثي نشاطه كمحاضر في "حركة الشباب المؤمن"، وخاض حربه الأولى (عام 2004) تحت ظلال هذا الاسم. إلا أنه تم خلع لقبه الأسري على أتباعه فعُرفوا بـ "الحوثيين". تعامل الإعلام الرسمي معه كـ "متمرد"، ثم خلع هذا التوصيف على أتباعه الذين أصبحوا يُعرفون رسمياً بـ "المتمردين الحوثيين". بيد أن أتباعه تمكنوا، مبكراً، ما بعد مقتله، من التغلب على التصنيف الرسمي؛ إذ فضل المجتمع تعريفهم كحوثيين، متجاوزاً الإصرار الرسمي على وصفهم بـ "المتمردين". وبعد حصولهم على حالة من "التمكين"، ما بعد الحرب الرابعة، أطلق الحوثيون على أنفسهم تسميات أخرى ذات دلالات دينية سلفية. ومؤخراً، قدموا أنفسهم، في الإعلام، والعاصمة صنعاء، باسم آخر هو "أنصار الله"، إلا أنهم يتحركون في مجالهم الاجتماعي باسم أكثر سلفية. وفي المناطق التي زرتها في صعدة و"حاشد"، وجدت الحوثيون يفضلون تسمية مقاتليهم بـ "المجاهدين". إلا أني لم أجد هذه التسمية في "همدان"، عند زيارتي لها أمس.
هذا الانتقال التعريفي المتعدد يؤكد أن جماعة الحوثي تُعاني قلقاً في الهوية. بنى حسين الحوثي مشروعه ووجوده على مقاومة الصلف الأمريكي. وفي إحدى محاضراته، أعلن توصله إلى "الشعار"، وقال إنه "صرخة" لمواجهة الاستكبار الأمريكي. وقد ردد ذلك "الشعار" أول مرة بنفسه وطلب من طلابه ترديده بعده. انتقل طلابه من صعدة إلى الجامع الكبير في صنعاء، حيث كانوا يقفون، بعد صلاة الجمعة، لترديد "الصرخة"، واعتقل، عام 2004، المئات منهم على ذمة ذلك. اعتمد الرجل على هويته الدينية؛ إذ لم يكتف باستخدام محافظته، صعدة، المعروفة بـ "كرسي الزيدية"، كمنطلق له، بل اتجه إلى صنعاء القديمة، واتخذ من جامعها الكبير منبراً لحضوره في قلب العاصمة السياسية للدولة، والعاصمة التاريخية للمذهب الزيدي.
اعتقل الأمن المئات من داخل الجامع الكبير؛ إلا أن حسين الحوثي كان يجد من طلابه من يقوم بالمهمة أسبوعياً: ترديد "الصرخة"، بعد انتهاء الناس من أداء صلاة الجمعة في هذا الجامع. انتبه صانع القرار في صنعاء للرجل وحركته، فقرر اعتقاله. وعند محاولة تنفيذ أمر الاعتقال، تفجرت شرارة الحرب، على ضواحي مدينة صعدة. اتجه الرجل إلى مسقط رأسه في "مران"، وهناك قاتل حتى قتل، ولم يكن أكثر من خطيب ديني لديه ملازم.
بمقتله، خلق حسين الحوثي "كربلاء" جديدة استقطبت أتباعا ومناصرين كُثرا. وقد تجاوز حضور جماعته اليوم ما لم يكن يحلم به، أو يُفكر فيه.
منذ الحرب الثانية، ظهر عبد الملك الحوثي، متقدماً على إخوة أكبر سناً منه، باعتباره "القائد الميداني لجماعة الحوثي". ورث عبد الملك من أخيه أتباعه، وقصته الكربلائية. عندما أثبت الفتى جدارته، قاد عملية تحول في مسيرته الشخصية ومسيرة جماعته. انتقل، بالتدريج، من وصفه كـ "القائد الميداني لجماعة الحوثي"، إلى "قائد جماعة الحوثي"، ثم أخذ اللقب الذي كان يُطلق على أخيه حسين: "السيد". وضمن هذه التطورات التي شهدتها الجماعة على مستوى الهوية والحضور الاجتماعي، أصبح هناك من يُخاطبه بـ "سيدي ومولاي". وهناك من استبق التطورات، وأصبح يتحدث عنه باعتباره "الإمام"!
مرد هذا القلق في الهوية إلى أن جماعة الحوثي ظلت رهينة للتطورات التي استخدمتها في إعادة تعريف نفسها. يقوم هذا القلق على رغبة في التخفي والمخاتلة، إذ تخفى مشروع هذه الجماعة، في البداية، خلف شعار مواجهة أمريكا، ثم خلف شعار "المظلومية"، و"الدفاع عن النفس"، ثم خلف "الجهاد".
ولئن كانت هوية هذه الجماعة بدأت غير واضحة للبعض؛ أخذت مساراً تصاعدياً من الكشف وهو مسار ستنتهي فيه إلى التعبير عن هويتها الحقيقية، التي ظلت تُخفيها من باب "التُقية".
ص/الشارع |