عبد الحفيظ النهاري * -
أولا : حمولات القطيعة الغربية ـ العربية : مدخل :
التتبع التاريخي لأسباب الصراع والفجوات التي تسببها الجفوات بين العرب والغرب يبرز لنا عوامل صراع رئيسية تتمثل في : ـ الصراع الحضاري ـ الصراع الديني ـ الصراع الاقتصادي (الدنيوي) أخذ الصراع الحضاري دوره في القرون الأولى من الدولة الإسلامية بتداخل الدين في عهد الفتوحات الإسلامية وتوسع الدولة الإسلامية المركزية وصراعها مع ما تبقى من إمبراطورية الروم وإمبراطوريات أخرى آفلة احتوتها الإمبراطورية الإسلامية واتسعت على حسابها وصولا إلى الأندلس في نطاق القارة الأوروبية متخطية الحدود التقليدية للتوسع الشرقي ـ الغربي ، ليأخذ الصراع بعد ذلك صبغته الدينية في موجات الحملات الصليبية الثلاث والتي بدأت برغبة دحر العرب عن الأندلس وإعادتها إلى حظيرة أوروبا المسيحية وتبني فكرة تمسيح الطريق إلى القدس لتصبح الطريق إلى القدس هي طريق المقاتلين الصليبيين إلى الجنة.
ليقابل تلك الحملات الصليبية موجات دفاع عن الذات اختلفت حدتها من موجة إلى أخرى ولتترك تلك الحملات الصليبية وبشاعة ما خلفته من صور الوحشية والدمار والخراب دون أن تحمل معها أية بصمات حضارية لأنها لم تكن طفرة توسع حضاري بل كانت حملة تعصب وتطرف ديني وحقد يدعمه جهل أوروبا وتخلفها آنذاك بخلاف التوسع الإسلامي الذي حمل معه إلى الأندلس قيم حضارية وعلمية وثقافية ومدنية بدليل ما حل بالأندلس بعد دخول المسيحيين إليها من تدمير لمقومات المدنية وإعادتها إلى عصور ما قبل الحضارة الإسلامية. وبعد الاستعمارية: الذي خلفته الحملات الصليبية الثلاث على الشرق بزغت شمس الإمبراطورية العثمانية من الأناضول لتكون المد الحضاري البديل ولتتوسع وتنتشر في اتجاهات معاكسة للحملات الصليبية لتعيد حملة الصليب إلى نطاقها الجغرافي التقليدي الضيق وتقلص نفوذه وطموح اتساعه ولكن لتكون أقل وحشية من الحملات الصليبية برغم دعاوى الغرب المسيحي بشأن الأقليات الدينية وقضايا الأرمن واليونان وغيرهم من الأقليات التي أصبحت في نطاق الإمبراطورية الإسلامية العثمانية ، لكن هذه الانتصارات الارتدادية التي حققتها الإمبراطورية العثمانية تركت صورة بغيضة للأتراك في عيون الغرب المسيحي المنكمش على نفسه في حدود ما تبقى من أوروبا التي امتد إليها الطوفان العثماني، ثم لتبدأ مرحلة متداخلة معها وتتلوها حقب أخرى من الصراع نحاول في هذه المداخلة قبل مقاربة الخطاب الإعلامي وتنميط صورة الذات والآخر ـ نحاول ـ الاستقصاء المختصر للحمولة التاريخية التي شكلت تلك الصورة .
• الحقبة الاستعمارية :
تزامن بزوغ الإمبراطورية العثمانية مع شروق شمس الحضارة الغربية الجديدة التي ستنقض بدورها فيما بعد على ما تبقى من تركة الإمبراطورية المريضة إثر الحرب العالمية الأولى التي عجلت بأجل الإمبراطورية العثمانية فضلا عن عوامل تقليديتها التي لم يكن لها أن تصمد أمام مقومات النهضة الأوروبية الحديثة. لكن قبل ذلك المشهد الأخير لاحتضار الإمبراطورية العثمانية استيقظت الأطماع الأوروبية / الغربية منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي وأخذت صورتها الدنيوية البحتة المغايرة للحملات الصليبية وتزامنت تلك الأطماع الدنيوية المادية الاقتصادية مع توسع اكتشاف العالم وتراكم الاكتشافات العلمية واختراع الأنماط الحديثة من السلاح الناري واكتشاف أصقاع وثروات طبيعية جديدة كالذهب وغيره ،وتشجيع البعثات العلمية والاستكشافية وتقليص دور الكنيسة وإقامة القطيعة بينها وبين العلم والعقل لينبثق عن تلك الطموحات والقدرات الجديدة ما أسمي بالحقبة الاستعمارية التي استهدفت السيطرة على طرق التجارة ومصادر الثروات ونهب مقدرات الشعوب الأخرى بقوة السلاح وبالتوسع والنفوذ العسكري فضلا عن السيطرة على المناطق والقارات الجديدة وإقصاء سكانها الأصليين وتهميشهم وهيمنة الثقافة الغربية بمظاهرها السلوكية واللغوية والرمزية ، سعيا إلى توفير حاجة الصناعة الجديدة وإشباع جوع الماكينات الجديدة وتزويدها بالمواد الخام الأولية للصناعة والطاقة مثل الحديد والنحاس والفحم ثم النفط والغاز بعد ذلك في القرن العشرين.
واتسمت الحقبة الاستعمارية بقيمتين متناقضتين هما:
1ـ العدوان والسيطرة والتنكيل بالشعوب ونهب الثروات والاستغلال السيئ للإنسان.
2ـ حمل قيم النهضة المدنية والصناعية والثقافية والمعرفية الحديثة إلى الشعوب الأخرى المتخلفة.
وكانت المنطقة العربية من بين المناطق التي تكالب وتسابق عليها الاستعمار الغربي (الأوروبي) منذ مطلع القرن الخامس عشر من خلال حملات الاستكشاف الإسبانية البرتغالية والهولندية وغيرها فضلا عن السباق والصراع الاستعماري الإنجليزي الفرنسي الإيطالي للسيطرة على طرق التجارة والممرات البحرية والأسواق الأمر الذي ترك آثاره السلبية على شعوب المنطقة العربية ومن ذلك :
ـ استهداف الهوية العربية والإسلامية والوطنية المحلية.
ـ محاولة طمس الثقافات المحلية التي هي محور تشكل الهوية.
ـ خلق الشقاق والفرقة بين الفئات والشعوب المحلية.
ـ استغلال التعدد الإثني والعرقي والمذهبي والجغرافي في إثارة الصراع والفتن والفرقة. ـ استغلال الثروات والموارد الطبيعية.
ـ استغلال الثروة البشرية وطاقات الشعوب لخدمة المصالح الاستعمارية.
ـ استعباد وإذلال الشعوب المستعمرة وفق برامج وخطط واستراتيجيات استمرت لقرون.
ـ تجهيل الشعوب المستعمرة واستخدام نخب معينة تتمثل الثقافة الاستعمارية وتسخر ضد مصلحة الشعوب غالبا.
كل هذا ترك آثارا مدمرة على الشعوب وترك ضغينة في نفوس الأجيال عززتها حركات التحرر الوطني التي ثارت على الاستعمار وعملت على تحرير الشعوب من ظاهرة الاستعمار التي مثلت ذروة الانتهاك لحقوق الإنسان والشعوب وحرمتها من حريتها الذاتية في تقرير مصيرها والتخلص من الوصاية الاستعمارية التي سلبتها إرادتها، وهو ما شكل فجوة وجفوة بين المستعمر والمستعمر وما تزال صور الاستعمار بغيضة وماثلة للعيان في أذهان الأجيال والشعوب وتتسبب في نمو مظاهر السخط والغضب وموجات التعبير عنها.
• حقبة ما بعد الاستقلال والتحرر:
بعد ثورات التحرر والاستقلال بدأ الاستعمار الغربي المندحر بفعل السخط الثوري عليه أو بفعل النكاية بالثورات في إتباع سياسة حصار الشعوب المستقلة اقتصاديا وسياسيا ليضرب على الشعوب المستقلة سياجا من التخلف والفقر والعوز أو تعزيز التبعية الاقتصادية والسياسية ، وبدأ يمارس سلوك الاستعمار عن بعد ليدشن بذلك ذات القيم الاستعمارية ، سواء من خلال التحكم الاقتصادي واحتكار التصنيع والمعرفة والموارد أو من خلال التدخل السياسي في شؤون الدول المستقلة وتوظيف المؤسسات الدولية لخدمة الدول الكبرى ذات التاريخ الإمبريالي سيئ الذكر ، أو من خلال زرع الفرقة وإثارة الصراعات المحلية والإقليمية وتوظيف معرفتها بطبيعة وتركيب تلك المجتمعات المستعمرة سابقا للحيلولة دون تقدمها، وما أن وقعت النظم الثورية في أخطائها المتراكمة واستنفدت شرعيتها الثورية وعجزت عن تحقيق وعودها الثورية حتى شكل ذلك الوضع مرتعا خصبا جديدا لهجمة استعمارية إمبريالية وموضوعا مناسبا لعودة الاستعمار بصورة الجديدة والقديمة معا.
ففي الوقت الذي يتباكى فيه على حقوق الإنسان ويضخم أخطاء الأنظمة الوطنية التي تناهض المصالح الاستعمارية نجده يتغاضى عن الأنظمة التقليدية الملكية الأكثر تخلفا والتي تمثل امتدادا للمصلحة الاستعمارية بل ويعززها ويسلطها على الجمهوريات الثورية ويروج لجمودها باعتباره استقرارا تفتقده الجمهوريات الثورية ، عزز ذلك التوظيف فشل الأنظمة الوطنية وارتفاع وتيرة الاضطرابات والانقلابات والحروب البينية.
حتى جاءت مرحلة اختلال التوازن العالمي بانهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت تشكل سندا رئيسيا لحركات التحرر والانعتاق من شرور الرأسمالية الإمبريالية والاحتكار الاقتصادي والتكنولوجي والمعرفي ، عندئذ أصبحت شعوب العالم الثالث ومنها العالم العربي مكشوفة أمام المستعمر التقليدي ترهنها حاجتها للمؤسسات الدولية الرأسمالية ولسياسات المستعمر القديم دون نصير أو معين سوى الاعتماد على المساعدات والقروض والمعونات مقابل فقدانها لمقومات استقلالها وتبعيتها السياسية والاقتصادية لتصبح إيديولوجية الحاجة مكان أيديولوجية العدالة الاجتماعية والدولية. ولم يقف الاستعمار الغربي بوجهيه القديم والجديد عند مسألة انهيار الاستقلالات وعودة الشعوب المستقلة ومنها الشعوب العربية ، العودة غير الاختيارية إلى أحضان المستعمر القديم أو الجديد ، بل حن إلى العودة إلى سلوكه القديم بالاحتلال العسكري المباشر غير راض بتحكمه الاقتصادي والسياسي واحتكاراته المعرفية والتكنولوجية عن بعد ، بل ضرب بالقيم والعهود الدولية المكتسبة عرض الحائط وكشر عن أنيابه العسكرية وعزز تحالفه الاستعماري الغربي (الأمريكي ـ الأوروبي) لأجل احتلال العراق ، وأفغانستان ، فضلا عن نموذج إسرائيل ونظام جنوب إفريقيا العنصري المندثر، واندثرت فترة الاستعمار عن بعد والتبعية الاقتصادية والسياسية لنعود إلى مرحلة الاستعمار المباشر ووضع الشعوب من جديد تحت وصاية الغرب الاستعماري بوجهيه الأمريكي ـ الأوروبي واستخدام المنظمات الدولية كغطاء لتبرير احتلال الشعوب واستعمارها ونهب ثرواتها ومواردها وطمس هوياتها المحلية وشخصيتها التاريخية والوطنية وإذلال الشعوب من جديد تارة باسم التحرير وتارة باسم حقوق الإنسان وتارة باسم الأمن العالمي وتارة باسم محاربة الإرهاب وكلها بما يتعارض مع المواثيق الدولية في حق الشعوب في استقلالها وتقرير مصيرها وإدارة شؤونها واستغلال ثرواتها الطبيعية.
• حقبة الحرب الباردة :
كانت المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية إحدى بؤر الصراع العالمي بين معسكر الرأسمالية الإمبريالية الغربية ـ ومعسكر الاتحاد السوفيتي الاشتراكي ، وكانت المنطقة العربية نموذجا للصراع الأيديولوجي الحاد بين القيم الليبرالية الرأسمالية الإمبريالية وبين القيم الاشتراكية التقدمية التي دعمت الشعوب المتحررة من الاستعمار وقدمت مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد وقدمت كذلك وعودا في العدالة الاجتماعية وحقوق الشعوب في الثروات كانت أكثر ملاءمة لشعوب عانت من وطأة الاستعمار أو تخلصت للتو من سيطرة النظام الرأسمالي الإمبريالي البغيض الذي نهب ثروات الشعوب وشكل نخبا رأسمالية على حساب حقوق الشعوب فكانت الأيديولوجية الاشتراكية ملاذا للشعوب المتحررة للتو من الاستعمار الرأسمالي لا سيما بما تحمله من طبيعة راديكالية من شأنها أن تقوض البنى الاستعمارية التي خلفها الاستعمار بعد رحليه. وأصبح التجاذب المحلي والإقليمي هو عنوان حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وكان من بين انتقالات الحرب الباردة أن أصبحت أفغانستان المتاخمة للحدود السوفيتية البؤرة الأكثر استقطابا لمظاهر الحرب الباردة ليكون احتلال الاتحاد السوفيتي لافعانستان المسوغ الرئيسي للهجمة عليه بيد مليشيات إسلامية متطرفة أطلق عليها مصطلح المجاهدين ، لمحاربة الإلحاد وهي وظيفة هيأها لها المعسكر الغربي / الرأسمالي ومخابراته لتكون حرب السوفييت التقليدية بيد الإسلاميين لا بيد الغرب الذي يمسك على زناد السلاح النووي الذي لا سبيل لاستخدامه في مواجهة ترسانة نووية موازية إلا في حالة الانتحار الثنائي. وكانت القوى المتطرفة دينيا ومن ورائها الأنظمة التقليدية الخادمة للغرب والمدعية حماية الإسلام هي الجندي المعلوم الذي ينتحر بالنيابة على تخوم الاتحاد السوفيتي بأسلحة غربية وبأموال عربية تطلعا إلى الجنة.
وشاءت مجموعة الظروف ، التي لا مجال للإحاطة بها هنا ، أن تنتهي الحرب ليس بهزيمة الاتحاد السوفيتي بل بانهياره وانهيار المنظومة الاشتراكية كلها ، ليصبح جنود الله /جالأولى،ب وسيوفهم الغربية وأموالهم العربية في ساحة المعركة بدون عدو.
• البحث عن عدو :
بعد انقشاع غيوم الحرب الباردة تنفس الغرب الاستعماري الإمبريالي الصعداء ليجد نفسه بدون عدو يسمح له بوتيرة التقدم تحت ضغط الأمن والتهديد الخارجي فكانت النزعة الاستعمارية الأولى هي الدافع الجديد لحماية المصالح الإستراتيجية الغربية في المنطقة العربية ، أو فلنقل أنه حن إلى سلوكه الاستعماري القديم حين لم يعد هناك من يمنعه دوليا وتوجه بصره مباشرة إلى منابع النفط التي لم يكن له أن يحقق السيطرة المباشرة عليها إبان الحرب الباردة. ولم يعد الغرب الاستعماري يكتفي بالوكلاء المحليين كالكيان الإسرائيلي في المنطقة العربية أو الأنظمة الرجعية المحلية بل تطلع إلى استخدام ترسانته العسكرية التي أعدها لمواجهة الاتحاد السوفيتي من أجل السيطرة العسكرية المباشرة على المناطق الحيوية في العالم ومنها المنطقة العربية. وكانت حرب الخليج الثانية هي المحك الأول لتجريب واستخدام التكنولوجيا العسكرية المتقدمة لاستعمار الشعوب والسيطرة على الثروات مثلما حدث في بداية الحقبة الاستعمارية الأولى ، ولكن تحت مظلة المنظمة الدولية ـ الأمم المتحدة ـ وبتواطؤ الأنظمة المحلية الموالية. حيث كانت صورة الأنظمة الوطنية الثورية التحررية المعادية للغرب الرأسمالي الإمبريالي هي عينة الضحية التي سينقض عليها الاستعمار الجديد بدعاوى تحرير الشعوب من ظلم وفشل أنظمتها الثورية الوطنية ، وتحت مبرر الدفاع عن حقوق الإنسان ، ونشر الديمقراطية والقيم الليبرالية ، والتبشير بالعصر الرأسمالي الذي لا شريك له.
وتركت تلك المعركة التي جلبت الآلة الاستعمارية إلى المنطقة ظلا ثقيلا على نفوس الشعوب العربية وشعور بالقهر وبالعجز جعل جنود الله والغرب في أفغانستان بالأمس والعاطلين عن القتال يشعرون أن الأمة العربية والإسلامية هي الهدف المباشر للوحش الرأسمالي الغربي وتنامت الضغينة لتكون أحداث الـ 11 من سبتمبر هي التعبير المتطرف الأول عن مشاعر الكبت والعجز والتأزم الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية.
• أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001 :
وكانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أمريكا (نيويورك وغيرها من الأهداف) هي ضالة الغرب في إيجاد عدو جديد بديل عن الاتحاد السوفيتي الذي انهار.
وبأحداث الحادي عشر من سبتمبر يكون السلاح الغربي قد ارتد إلى نحره ومعاونيه ولكن ليس اعتباطا وإنما بناء على مقدمات ومسوغات تراكمت وشكلت الشجرة التي حجبت الغابة،منها مسوغات وأسباب تتعلق بالذات ومنها ما يتعلق بالآخر ـ الغرب ـ ومما يتعلق بالأسباب والدوافع ذات الطبيعة المحلية :
ـ فشل الأنظمة الوطنية ، سواء منها الموالية للغرب وصنيعته أو تلك التي وجدت نفسها وحيدة بدون نصير بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ، فشلها،في بناء مؤسسات وطنية حديثة وفي تلبية الحاجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجتمعاتها المحلية.
ـ تفاقم مظاهر الظلم والتخلف والفساد والفشل الإداري وتفاقم ظواهر الفقر والجهل والمرض.
ـ انسداد أفق الأحلام بمستقبل أفضل للشعوب العربية وشعوب العالم الثالث سواء منها التي تمتلك ثروات طبيعية وموارد أو من لا تملك ذات الإمكانات ، فضلا عن تفاقم البطالة والبطالة المقنعة وزيادة عدد السكان وتدني الإنتاج الوطني والقومي وتدني الزراعة وشحة الموارد والاعتماد على السوق الخارجية في الاستهلاك وتغير أنماط الإنتاج في بلدان ليست مهيأة للانتقال الإيجابي إلى نمط الإنتاج والاستهلاك الحديث.
ـ تراجع المد اليساري والقومي وفراغ الساحة السياسية والأيديولوجية أمام الحركات الإسلامية السلفية والتطرف الديني الإسلامي.
ـ غياب قيم العدل والمساواة والفشل في بناء مؤسسات ديمقراطية تحقق المشاركة الشعبية والتداول السلمي للسلطة وتجسيد التعدد الثقافي والعرقي والطائفي وتضمن الحقوق المدنية.
ـ فشل أنظمة التعليم في بلورة الهوية الوطنية والقومية والإسلامية.
أما ما له صلة بالآخر ـ الغربي ـ فمنها :
ـ الحيف والظلم المتراكم على امتداد الحقب التاريخية وبالذات منها ما ذكرنا من حقبة الحملات الصليبية ضد المنطقة العربية والإسلامية ، ثم ما خلفته حقبة الاستعمار من ظلم وعدوان ، ثم ما خلفته بعد ذلك العدوانات الجديدة المتمثلة في الهجمة الاستعمارية الارتدادية على الوطن العربي والإسلامي.
ـ نمو التطرف اليميني ـ المسيحي والترويج للمشروع الرأسمالي المنتصر وإذكاء روح الكراهية والاحتقار للعرب والمسلمين .
ـ تجدد العدوانات العسكرية والأطماع الاستعمارية في المنطقة العربية والسعي المستمر إلى قهر الشعوب العربية وإذلالها وسلب حرياتها وتكريس السيطرة على مقدراتها والاستحواذ على ثرواتها.
ـ تشويه الدين الإسلامي والقومية العربية وسحق كبرياء الأمة الديني والقومي والثقافي من خلال انتهاك مقوماتها التاريخية والإساءة إلى رموزها الثقافية والدينية ومعالمها ومصادر فخرها واعتزازها وهتك الأعراض وقتل الإنسان العربي والسعي إلى سحقه واستهداف وجوده.ومن الأدلة الصارخة على ذلك ما يحدث في العراق جراء الاحتلال الأمريكي ـ الغربي له والممارسات الاستعمارية إزاء شعب العراق، وما يحدث بالمثل في أفغانستان، وما يحدث منذ سبعة عقود في فلسطين من قبل الإسرائيليين.
ثانيا : الإعلام والصورة النمطية للذات وللآخر :
أصبح للإعلام دور رئيسي في الصراع والحوار بين الأمم بعضها بعضا، ولم يعد الصراع أو الحوار بين الأمم حكرا على المؤسسات والأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل أصبح الإعلام طرفا رئيسيا في إذكاء الصراع أو تعزيز الحوار بين الأمم والشعوب. وصار الإعلام في مقدمة العوامل التي يمكن أن تعزز التفاهم أو تذكي الصراع وتؤلب الأمم والشعوب على بعضها.
وبالرغم من كون الإعلام ما يزال محكوما بالاتجاهات السياسية إلى حد ما ،إلا أن تكنولوجيا الإعلام والاتصال وتنامي الاستقلال النسبي وحرية التعبير عن الرأي ، وتنامي الخطابات الثقافية والحضارية المحلية يجعل الإعلام يتجاوز المربعات التي ترسمها الدوائر السياسية ويتخطاها إلى خطابات تنتجها المنظومات الثقافية والاجتماعية وساعد التطور السريع لتكنولوجيا الإعلام والاتصال على تكون الخطابات بصبغتها المحلية ـ العالمية وتجاوز حدود الزمان والمكان الأمر الذي أصبح بإمكان الإعلام أن يؤدي دورا هاما خارج الاتجاهات السياسية العامة ،ولكن ليرتهن بالمقابل أكثر للأيديولوجيات والمذاهب الدينية والثقافية وأكثر تسويغا وتسويقا لها.وبالنتيجة فإن نمو الوعي بالذات والوعي بالآخر بمقدار ما ساعد على الشفافية وفهم وجهات النظر ، بقدر ما عزز التعصب للذات والتمترس والاحتراز وخاصة من قبل الثقافات والشعوب والمذاهب التي تشعر أنها مهددة بفعل طغيان وهيمنة الخطاب العالمي/ الغربي / الإمبريالي / الرأسمالي / المادي منه والثقافي والأمني على حد سواء.
وبقدر تعويلنا على الفضاءات الإعلامية الجديدة ووسائل الإعلام (المتعددة) نتوقع منها أيضا أن تحدث ارتدادات عكسية على مستوى تكريس ثقافة الحوار مع الآخر والتخلص من التعصب الذي يفضي إلى تشظي الذات وتمزقها ، وهي جدلية لعل ما يهمنا منها هنا هو التعرف على إمكانيات الإعلام في تنمية ثقافة الحوار بين الشعوب والأمم والثقافات ومن ذلك التفاهم والحوار العربي ـ الأوروبي. ولأن فضاءات الإعلام قد تعددت وإمكاناتها تطورت الغربي:د الذي لا يمكن معه التعميم في رصد مظاهر الصورة النمطية للذات والآخر في تلك الوسائل والفضاءات فإننا سنحاول في هذه التناولة أن نقتصر على بعض الأمثلة المتاحة والتي نعول عليها في أن تكون أكثر خدمة لغرضنا في (الأيام العربية الأوروبية ، من أجل تفاهم أفضل). محطة ألـ 11 من سبتمبر 2001 والتحريض الإعلامي الغربي : كانت قد سبقت أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001 بعض الظواهر في المجتمعات الأوروبية مثل ظاهرة سلمان رشدي التي كرست إعلاميا لتأكيد مبدأ أن قيم الإسلام تتناقض وتقوض قيم المدنية الحديثة في الغرب وتقوض الأمن الاجتماعي والثقافي داخل تلك المجتمعات ؛ إلا أن استدعاء الخطاب الإعلامي المستعدي والمحرض على المدى المنظور يبدأ بمحطة الـ 11 من سبتمبر 2001 حيث شن الإعلام الغربي حملة ظالمة على العالم الإسلامي والعربي بالرغم من الشراكة والمصالح القائمة والأنظمة الموالية للغرب والمخابرات الوطنية والقومية المسخرة لها وهذا ما أكده مستوى التعاون والتسهيلات اللوجستية الذي قدمته الأنظمة في العالم لخدمة ما أسمي بالحرب الأمريكية على الإرهاب.
والحملة الإعلامية لم تقتصر على الفئة المتطرفة التي قامت بغزوة مانهاتن ولا على محاربة أفكارها وخياراتها الفكرية وتعبيرها الخاص عن الغضب ورفض الظلم الأمريكي الغربي الواقع على العالم الإسلامي ومنه العربي ، بل تجاوزتها إلى حرب الإسلام والمسلمين وترشيح الإسلام كعدو بديل للاتحاد السوفيتي دون أن توجد مقومات ومسوغات لهذا الترشيح سوى ما أفرزته ساحة أفغانستان التي أنتجتها معركة الغرب مع الاتحاد السوفيتي.
ورقعة أفغانستان لا تمثل ولم تكن تمثل ولن تمثل النموذج الإسلامي الراهن بأي حال من الأحوال ، لكن الإعلام الأمريكي والغربي الذي أثبت جهلا كبيرا بالإسلام والمسلمين لم يتورع في تشكيل الصورة النمطية الإرهابية للمسلمين والعرب وذوي السحنات الشرقية بصورة عامة وأصبح الشكل والعرق محل تهمة الإرهاب في المجتمعات الغربية بفعل الصورة النمطية التي روجها الإعلام الغربي ، بينما كان العالم الإسلامي والعربي نفسه يعاني نفس المعاناة ويتخذ نفس الموقف من التطرف الذي ليس إلا أقلية أخصبتها عوامل متعددة سبق ذكر بعضها.
ولم تقف الهجمة الإعلامية الغربية على العالم الإسلامي والعربي عند حد بل تجاوزت كل المحظورات وانتهكت كل الفواصل الدينية وتهكمت على الإسلام والمسلمين لتتخذ من سقوط التوأم في نيويورك ذريعة لبسط يدها العسكرية الأمنية الاستعمارية من جديد على العالم الإسلامي والعربي والمناطق المستعمرة تقليديا ومناطق الصراع والنفوذ والمصالح الحيوية الاقتصادية للعالم، فكان الاتجاه لاحتلال العراق وحشد الطاقة الإعلامية الغربية بالكذب والتضليل والتحريض على العراق الذي أثبتت الأيام كذب كلما روجه إعلام الغرب وتضليله وتحريضه الظالم على دولة مستقلة لم يكن لها أي ارتباط بالإرهاب ولا تمتلك أسلحة دمار لتصبح هي الهدف الأساسي للحملة العسكرية الغربية تحت مظلة الأطلسي ،وتكون أفغانستان التي أنتجت الهجوم على نيويورك محطة ثانوية للحملة العسكرية ولا يتجاوز التواجد العسكري الغربي فيها الـ10% من القوات التي اتجهت للاحتلال غير الشرعي وغير المبرر للعراق مع ما رافق ذلك من حملة كذب وتضليل إعلامية غربية من إعلام يزعم أنه إعلام مستقل وحر بينما يستقي اتجاهاته ومادته من المطابخ السياسية والعسكرية الغربية فضلا عن التعتيم الذي مورس ضد الإعلاميين ووسائلهم على أرض المعركة في حرب الخليج الأولى على العراق في 1991 وفي المعركة الثانية لاحتلاله في 2003. ومن أبرز فضائح الإعلام الغربي الصورة التلفزيونية المزورة لطيور تموت جراء تلوث النفط في الخليج بينما يتضح فيما بعد أنها صور التقطت في منطقة أخرى من العالم وفي سياق آخر. إن الصور الرمزية العسكرية والإعلامية الغربية التي أنتجتها حرب استعمار العراق لضرب كبرياء العرب وإذلالهم ليست مما يمكن تجاوز الذاكرة العربية له بل ستظل محفورة في الوجدان الثقافي العربي المقاوم للظلم الغربي وإن من الاستخفاف ف بذاكرات الشعوب أن نطلب تجاوزها ونسيانها لمحطات هامة ومفصلية وقع عليها فيها كل هذا الظلم على الأمة العربية والإسلامية.
الظلم المادي والرمزي الذي طال كل المحظورات وطال قصف المساجد في العراق بالطائرات وهدم المعالم والرموز الإسلامية التي تشكل مقدسات ومراجع وجدانية ودينية في ضمير العربي المسلم والمسيحي على حد سواء. إن موقف الإعلام الغربي المضلل من المشروع الأمريكي الغربي الفوضوي في العالم لم يكن موقفا منصفا ولا موضوعيا وإنما شكل امتدادا لخطاب الاستعمار والعدوان الجديد وتبرير تلك العدوانات والانسياق وراء أكاذيب الاستخبارات الغربية وكذبها وتضليلها ولم يستطع الإعلام الغربي خلق معادل موضوعي مناهض لتلك القيم العدوانية الهمجية الإمبريالية التي أعادتنا إلى الحقبة الاستعمارية.
أين كان الموقف القيمي للإعلام الغربي في العدوان الأمريكي / الغربي على العراق الذي ضرب مشروعا علمانيا حداثويا في المنطقة ليبعث من جديد الدولة الدينية والطائفية والإثنية في الوقت الذي يضرب فيه أيضا الرموز الدينية الإسلامية والمسيحية ويدمر أقدم ذاكرة حضارية في العالم ، أين كان الإعلام الغربي من ذلك وهو يستخف بعقول الجمهور الغربي والعالمي ويختزل القضية في شخص صدام حسين ويصنع منه بعبعا لتبرير ضرب مقدرات العراق التاريخية والحضارية بل لكسر كبرياء الأمة العربية والإسلامية . لما ذا لم ينبري الإعلام الغربي للدفاع عن قيم العلمانية التي أسسها حزب البعث العربي الاشتراكي ؟ ولماذا لم يتساءل عن ماهية القيم الجديدة التي جلبها الاحتلال الغربي معه ؟ تلك القيم التي يندى جبين المدنية لها ، والتي تبدأ بجريمة الاحتلال لدولة مستقلة تحت مبررات كاذبة وتمر بقتل ملايين العراقيين من الأبرياء ، وتتجلى في مظاهر انتهاكات حقوقية ليست حادثة سجن أبي غريب غير نموذج مصغر لذلك ، مرورا بمحاكمة صدام والبعثيين ، وإحياء الدولة الدينية والعرقية والطائفية ، وانتهاء بكذبة تحقيق الحرية والعدالة والرخاء للشعب العراقي. هذا نموذج صارخ للحيف الذي ألحقه الإعلام الأمريكي ـ الغربي بالعالم الإسلامي والعربي الذي لم يقف عند ذلك بل كان من نتائجه تهكم الغرب على المقدسات والرموز الإسلامية والعربية وتشويه الإسلام كان منها: ربط بابا الفاتيكان (بيديكيت السادس عشر) العنف بالإسلام ، وتهكم برلسكوني ، رئيس وزراء إيطاليا وتطاول عدد من الكتاب والمفكرين ،بينما لا أحد ينتقد هراء بوش الذي يقول أن الجيش الأمريكي جاء إلى العراق لتحقيق رسالة الرب في نشر العدالة والحرية. أما على مستوى الظاهرة الإعلامية الأوروبية فقد مثلت مسألة الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية ضد النبي محمد عليه الصلاة والسلام ذروة التطاول والاستخفاف بالديانات والمقدسات الأخرى بما لا يلتقي مع حرية الصحافة والتعبير عن الرأي التي لم نراها تنبري للدفاع عن القيم المدنية لا في العراق ولا في أفغانستان ، حيث مرت مذبحة قلعة باجرام مرور الكرام ، ومرت المذابح الأمريكية والغربية وانتهاكاتهم المتتالية لشعب العراق دون صوت يذكر، وخارج ضمير الصحافة الغربية الذي تدعيه. الإعلام العربي والإسلامي: بدا الإعلام العربي والإسلامي في موضع الدفاع الضعيف بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 وذلك لأسباب تتعلق :
أولا بالقطيعة مع مظاهر التطرف الدينية والفكرية السلفية التي لا تنسجم أصلا وطبيعة وجوهر الإسلام وقيمه ، ولأن الإعلام العربي والإسلامي معظمه إعلام رسمي تابع للحكومات والأنظمة وبالتالي فإنه عكس خوف الأنظمة من الوحشية الأمريكية حتى مع حلفائها ومناصرته المجاملة للحرب الأمريكية ـ الغربية على ما أسمي بالإرهاب وهو في أحسن الأحوال مدافعا عن الهوية ومقاوما للهجمة العمياء ضد الإسلام ورافضا وضعه في خانة الإرهاب.
وباستبعاد الخطاب الرسمي المتزامن مع التسهيلات اللوجستية لأمريكا والغرب في حربها ضد الإرهاب ، وهو الخطاب المتناقض مع سلوك سابق لتلك الأنظمة والاستخبارات وعكس التعبئة التي تبنتها في تحالفها ضد الاتحاد السوفيتي في حرب أفغانستان ، باستبعاد ذلك الخطاب ،يمكن تقسيم الخطاب الإعلامي إلى :
ـ إعلام يدافع عن الحداثة والتقدم مقابل السلفية ويدافع عن ثقافة الانفتاح على الآخر والحوار معه والتأثر به ،مقابل التطرف والانغلاق على الذات ومحاربة الآخر، وهو إعلام بالغ في جلد الذات وفي تقدير الآخر وحضارته وقوته وحتمية مهادنته.
ـ إعلام يهادن أمريكا ويجاملها باسم الأنظمة حفاظا على بقائها يتغير بتغير الاتجاهات الأمريكية والغربية في حربها على الإرهاب سواء أكان الإرهاب المقصود أو الذرائعي لضرب أعداء أمريكا والغرب.
ـ إعلام مستقل محدود يحاول أن يدافع فيه عن الهوية والإسلام ويدفع تهمة التطرف عن المسلمين والعرب وحصر الإرهاب في فئة محددة لا تعبر عن المجتمعات والشعوب الإسلامية.
ـ إعلام علماني وجدها فرصة للنيل من التعصب الديني وما يمكن أن يلحقه بالشعوب من ضرر وبالعلاقات بين الشعوب والدول والأديان والحضارات والثقافات الأخرى من صدام.
ـ إعلام يعي المشروع الاستعماري الجديد لأمريكا والغرب ويناهض المؤامرة التي يتبناها الغرب ضد العرب والمسلمين للسيطرة على المصالح الحيوية في العالم وعودة الاستعمار المباشر والهيمنة العسكرية.
ـ إعلام يدافع عن التطرف والإرهاب بصورة خافتة خوفا من غضب أمريكا والغرب وحربها عليه وهو إعلام في جوهره متطرف وفي ظاهره خائف ومتواري من الحملة العالمية ضده ، ويحاول أن يتبني خطابا جديدا منفتحا ظاهريا والقبول السياسي بالأساليب الديمقراطية على مضض من باب التقية.
لكن معظم هذه النماذج من الإعلام في غالبها تئن تحت وطأة الهجمة الاستعمارية الجديدة التي اتخذت من غزوة مانهاتن ذريعة للهجوم على مقدرات الأمة سواء تعاطي هذا الشعور بصراحة أو بالتورية أو في الضمير ، لكنه لم يكن معبرا بصورة دقيقة عن الغضب والقهر الذي يعتمل في قلوب الجماهير العربية والإسلامية وهي ترى الغرب يستغل أفعال المتطرفين كذرائع للهجوم على الإسلام والعروبة واستباحة استقلال الدول والشعوب والتدخل في شؤونها الداخلية حتى في المنهج المدرسي وفي إغلاق وإلغاء المدارس والمعاهد الدينية. وبالنتيجة فإن الغرب لم يعد مجرد صورة نمطية في الإعلام العربي الإسلامي وإنما صنع الغرب في هجمته الاستعمارية صورته النمطية بفعل الإحتلالات الجديدة في أفغانستان والعراق وغيرها من الممرات والطرق الحيوية في العالم ليصبح العدوان والاحتلال والقتل وسلب استقلال الدول وانتهاك حقوق الإنسان العربي والمسلم هي المحددة لصورة الآخر وليس الإعلام العربي الذي هو بمثابة المدافع الضعيف مع سيطرة الإعلام الغربي على المشهد وعلى تدفق المعلومة وتوزيعها ليصبح الإعلام العربي مجرد مستهلك لخطا ب الإعلام الغربي إلا في ما هو محلي ونادر.
هذا الضعف في البنية المؤسسية للإعلام العربي والإسلامي وغياب الحريات جعل أداءه غير مواجه للآخر بحقيقته وبوطأة فعله وعدواناته الجديدة وليس فقط بحشد الذاكرة التاريخية لحقبة الاستعمار والحروب الصليبية بل وقع هذا الإعلام بعد الاحتلال الغربي للعراق في فخ المساهمة في تشظي الذات العربية والإسلامية وابتلاعه لطعم الإثنية والمذهبية والسلالية والعرقية والمناطقية لكي يشغله الاستعمار الغربي الجديد عن مقاومته مثلما فعل في موجات الاستعمار التقليدي الأولى باتباع سياسية " فرق تسد ".
وإذن فإن الإعلام العربي والإسلامي أمام تحديين :
الأول : يتعلق بالوعي بالذات والثاني: يتعلق بالوعي بالآخر لكن الانشغال بالتحدي الأول يشغله ويثنيه .
عن الانتقال إلى التحدي الثاني وهو توجيه خطابه إلى الآخر والحوار معه ومواجهته بحقيقة أفعاله وخلق مناخ يتجاوز الخلل القائم في ندية حوار المتبوع للتابع أو حوار الضعيف مع القوي.
وسائط الإعلام الجديدة ورهانات التفاعل والحوار بين الثقافات (فضاء الإنترنت نموذجا)
وفي ظل هذا الخلل المتفاقم بتركيبته الإعلامية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية نحاول التعويل الجزئي على ما تكونه تكنولوجيا الإعلام الحديثة من فضاءات جديدة كلما أصبحت أكثر يسرا وأكثر استخداما من قبل الأفراد والمجتمعات خارج المؤسسات الرسمية وهو ما يخلق حلبة افتراضية ديمقراطية شعبية توازي الخطاب الإعلامي غير المستقل وتقربنا من مصالح الشعوب والفئات الاجتماعية ،بخلاف الفضائيات العربية الجديدة والخاصة التي لم تثبت استقلاليتها بالرغم من كثرتها لأنها كثرة متجانسة تلمع صورة الأنظمة وتزيف وعي الشعوب وتغرقها في المتعة الحسية الآنية أكثر مما تتبنى النهوض بالوعي الجمعي. ومع خيبة الأمل بالفضائيات يصبح التعويل على الحلبة الإلكترونية على شبكة الإنترنت أكثر بالرغم من المعوقات المعرفية والتعليمية والاقتصادية والتكنولوجية والبنية التحتية للاتصالات، ومع أنها ما تزال أقرب إلى استخدام النخبة منها إلى عامة الشعب إلا أنها شيئا فشيئا تتجاوز الحواجز التي تحيط ببقية وسائل الإعلام مثل الرقابة المسبقة والتحكم الرسمي والترخيص والتقنين إلى غير ذلك من الكوابح وبالتالي ترشح هذه الفضاءات الجديدة لخوض معركة الحوار مع الذات والحوار مع الآخر وتصحيح الصورة النمطية للذات وللآخر.
وسنأعربي:لا في هذه التناولة على دور الإنترنت في تعزيز الحوار الشعبي مع الآخر بعيدا عن الدوائر السياسية والخطاب الرسمي .
وسأقدم نموذجا حواريا بين شاب عربي وشابة أمريكية يتحادثان عن بعد على شبكة الإنترنت لننظر إلى أي حد استطاع هذا الحوار الفردي أن يساهم في تخليص الفرد الغربي من القفص المعرفي الذي تسجنه فيه الخطابات السياسية والإعلامية والتنميط المعرفي الذي يتعرض له المواطن الغربي ، مقابل وعي المواطن العربي بصورة المعتدي عليه ووعيه بجراحه وآلامه التي لا تبارحه بفعل تآمر الغرب المتوالي عليه وليس بفعل الارتفاع في مستوى التعليم وتوفر فرصه ،فإلى الحوار:
: نموذج حواري افتراضي : شاب عربي : لماذا تبدين حزينة ؟
ـ شابة أمريكية:أنا حزينة وباكية بسبب وصول جثمان ابن أختي ؟
العربي: من أن وصل الجثمان ؟
ـ الأمريكية: من العراق، قتله أولئك الوحوش والبرابرة الإرهابيون.
العربي: الإرهابيون ؟
ـ الأمريكية: نعم ؟
العربي: من الإرهابيون ؟ الأمريكان الذي جاءوا من وراء المحيط لقتلهم واحتلال بلدهم أم العراقيين الذين يقاتلون من أجل تحرير بلادهم؟
ـ الأمريكية: الأمريكيون يقاتلون الإرهابيين العراقيين.
العربي: لماذا قطعت الجيوش الأمريكية المحيط لتذهب للقتال في العراق برأيك؟
ـ الأمريكية: لتحرير العراق.
العربي: ممن ؟
ـ الأمريكية: من صدام.
العربي : صدام عراقي والشعب العراقي وحده هو الذي يملك حق تحرير نفسه منه.
- الأمريكية : ولماذا لا تخلصه أمريكا ؟
العربي : من أعطاها الحق في ذلك؟
ـ الأمريكية: لا أدري، أمريكا تعمل على تحرير العالم ؟
العربي: تحرير العالم ممن ؟
ـ الأمريكية: من الطغاة .
العربي : ومن يحرر العالم من طغاة أمريكا ؟
ـ الأمريكية : لا أدري.
العربي: العراقيون فقط يملكون حق تقرير مصيرهم وتغيير نظامهم؟
ـ الأمريكية: ربما لا يستطيعون.
العربي : إذا تصورنا المشهد معكوسا واعتبرنا بوش طاغية وديكتاتورا يعاني منه الشعب الأمريكي هل يحق للجنود العراقيين أن يعبروا المحيط ويحتلون أمريكا لتحريرها من بوش؟
ـ جميل.حق لهم ذلك .
: لماذا ؟.
ـ : لأن أمريكا دولة مستقلة وهذا تدخل في شؤونها الداخلية.
: جميل . إذن لماذا تعطي أمريكا نفسها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة تبعد عنها آلاف الأميال ويفصلها عنها محيط وقارات؟
ـ : لنزع أسلحة الدمار الشامل من أيدي العراقيين.
: وهل وجدت أمريكا أسلحة دمار شامل ؟
ـ : لا . : إذاَ لما ذا تستمر في احتلال العراق وقتل أبنائه؟
ـ: لتحقيق الأمن.
: ومن قوض الأمن في العراق أليس الاحتلال الأمريكي؟
ـ: ربما خلاف العراقيين فيما بينهم.
: ولماذا لم يختلفوا في عهد صدام ؟
ـ : لأنها مستقلة، على العراق ؟
: وما هي طريقة أمريكا في تحقيق أمن العراق ؟
ـ : إحكام القبض عليه عسكريا.
: نفس الطريقة مع فارق أن ذلك رئيس عراقي لدولة مستقلة ، والأمريكيون محتلون أجانب للعراق يدعمهم مستخدمين ومرتزقة ساعدوهم على احتلال بلدهم.
ولكن هل تتصورين أن دفع أمريكا بما يقرب من مأتي ألف جندي والموازنة الضخمة المخصصة لذلك وكل هذه الحملة الإعلامية الطويلة الأمد هو من أجل كذبة تحرير العراقيين وكذبة أسلحة الدمار الشامل؟ وهناك شعوب كثيرة أخرى ترزح تحت الظلم والطغيان بدعم أمريكي؟
ـ ربما كان هناك أهداف أخرى ليعرفها الشعب الأمريكي.
مثل ماذا؟
ـ ربما النفط،النفط . وإذا سلمنا أنه النفط ، من أعطى الأمريكان الحق في السيطرة والاستغلال لثروات هي ملك شعوب أخرى؟
ـ لكنه من أجل رفاهية الشعب الأمريكي ؟
هل يحق للشعب العراقي لو حدث العكس السيطرة على ثروات أمريكا واستغلالها لرفاهية العراقيين على حساب احتلال وقهر الشعب الأمريكي ؟
ـ طبعا لا .
إذن لماذا تمنحون أنفسكم ما لا ترضونه لغيركم ؟
ـ الشعب الأمريكي تعود على الرفاهية وحقق تقدم خدم العالم.
وهل يرضى الشعب الأمريكي أن يكون مرفها على حساب تجويع الشعوب الأخرى ؟ هل يستقيم هذا مع الإدعاء بأن أمريكا تدافع عن حقوق الإنسان في العالم بل تنشر القيم الليبرالية؟
ـ لا.
إذن كيف تستقيم المعادلة ؟ وإذن من قتل ابن أختك ؟ بوش أم العراقيون ؟ المعتدي أم المعتدى عليه ؟ ومن الضحية ؟ ابن أختك أم الشعب العراقي؟
ـ تسكت و ينتهي الحوار.
الإعلام وإمكانية تجاوز الفجوة العربية ـ الغربية :
نجد في هذا النموذج للفضاءات الإعلامية الجديدة تعزيزا للحوار المباشر بين الأفراد والشعوب لكنه حوار خارج الفعل السياسي ومن الواضح أن الشعوب المتقدمة بقدر ما نتوقع أنها واعية بقدر ما نكتشف إلى إي حد هي مدجنة ومستغفلة ومخدوعة من قبل السياسيين والإعلام الغربي الذي جعل من القضاء على صدام إنقاذ للعالم من وجعل من العدوان على العراق واحتلاله تحريرا له ، ومن كذبة أسلحة الدمار الشامل دفاع عن أمن العالم.
وبقدر ما نجد من تدني في التعليم والمعرفة لدى الشعوب العربية إلا أن جراحها تجعلها أكثر وعيا بقضاياها وقضايا العالم وبقيم الظلم والهيمنة الأمريكية والغربية مع تدني حرية التعبير عن رأي الشعوب العربية والإسلامية مقابل الحرية الانتقائية في الغرب ، حرية في القضايا المحلية وكذب وتضليل وتواطؤ في القضايا التي تتعلق بالشعوب والأمم الأخرى ، قيم للداخل الغربي وقيم للخارج الشرقي. ولكن هل يسوغ كل هذا دوام القطيعة بين العرب والغرب ؟ بالتأكيد لا ، وإنما نشحذ ذاكرتنا لكي نكون أكثر وعيا بالذات وبالآخر حيث لا يستقيم الحوار بدون ذلك المستوى من الوعي ومن الندية ومن تقدير الآخر ومن النقدية والمحاسبة.
وإذا كان يراد لنا دائما المبادرة للتعديل الذاتي في الخطاب الإعلامي خارج سياق ما يفعل بنا الغرب سياسيا وعسكريا وثقافيا واقتصاديا فهو نوع من الاستغفال ونوع من طمس الذاكرة وتكريس الاختلال القائم في ندية الحوار وتكريس حوار المتبوع للتابع.
وإذن لا يستقيم الحوار بين الشعوب بنسيان الماضي أو الأفعال الراهنة بل بنبش الأسباب وكشف العلل والوقوف على التصورات المتبادلة للوصل إلى التخلص من الصورة النمطية التي تبنيها الدعاية وآلة الإعلام والحرب والتنميط الثقافي عن الذات والآخر.
إن صورة العرب في الإعلام الغربي مشوهة ومحرفة ومكرسة التحريف إلى درجة لا نستطيع معه الفصل بين الصورة لدى الأمريكيين والصورة لدى الأوروبيين لأنها ذات الصورة تبنيها ذات الأهداف وذات المصلحة وذات الذات.
كما أن صورة الغرب لدى العرب واضحة بحيث لا يدخل الخطاب الإعلامي والثقافي والديني والاقتصادي فقط في بلورتها بل تجعلها العدوانات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والدينية الواقعة على العرب والمسلمين ـ تجعلها ـ أكثر وضوحا أي أن الصورة ليست تنميط ثقافي فحسب بل تنميط سلوكي كلما حاولنا تجاوزه تجدد بعدوان غربي جديد يستهدف مقدراتنا ووجودنا وثقافتنا وتاريخنا.
إن المسألة أكثر تعقيدا من مجرد صورة نمطية يصنعها الإعلام العربي إنها صورة يصنعها السلوك الغربي إزاء الآخر.
إذن يصبح سؤال الحوار هو : ما الذي يمكن تعديله في ضوء هذه الحقائق ؟
وفي ضوء اختلال الندية في الحوار وفي القدرة على الفعل السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والإعلامي؟ وما الذي نستطيع أن نقوله لأبنائنا في دراسة التاريخ وفي دراسة اللغات كمنظومات ثقافية ومنظومات تواصلية ؟ تظل الأسئلة مفتوحة للبحث وللعمل الجاد من أجل الكشف لا من أجل الحذف من أجل التجاوز لا من أجل التكريس والتجاهل.
* باحث في الاتصال السياسي