د. أحمد عبيد بن دغــر* -
كنت قد أعددت بعض الأفكار للمشاركة في ندوة النقاش حول المرأة التي نظمها منتدى مدريد بالتعاون مع اتحاد نساء اليمن الأسبوع الماضي..وشاءت الأقدار أن لا أحضر، وعندما راجعت في اليوم التالي عناوين ما كنت قد أعددت ، وجدتني أدفع بها إلى صحيفة الميثاق بعد تكييفها بحيث تغدو ممكنة النشر..
في التراث الإغريقي حيث نشوء الديمقراطيات القديمة "ديمقراطيات السادة" كانت قضية المرأة محل خلاف بين مفكري ذلك العصر، وفقهائه، وكانت لأرسطو آراء قليلاً ما يُشار إليها في السجالات العديدة حول مستقبل المرأة، كان أرسطو يعتقد أن النساء رجال ناقصون، وأنهن كائنات إنسانية تفتقر الى ما هو جوهري في طبيعة الانسان "المقدرة على التفكير"، وفي وقت لاحق اعترف بأن النساء قادرات على التفكير نوعاً ما، إلا انه لم يغادر مسلَّماته، إذ ظل يردد أن طبيعة الرجل هي انه يفكر بطريقة مميزة إنسانياً.. لقد قلَّل هذا العبقري الكبير- الذي بقيت أفكاره محط اهتمام المفكرين والعلماء، وفلاسفة العصر- من قيمة المرأة، ورأى فيها كائناً معنياً بالتكاثر والتناسل.
هذه الآراء والأفكار تغضب نساء العصر، ويجد فيها الرجال- على ما لدى هذا المفكر من مكانة بين فلاسفة العالم-أفكاراً، لم تعد قابلة للاحترام اليوم.
واحتدم النقاش بين أساطين المعتقدات الدينية ما قبل الإسلام، وكان لرجال الدين في معظم الأديان أفكار ليست بعيدة عما ذهب إليه فلاسفة ذلك العصر، ومنهم أرسطو، فهؤلاء كانوا في غالبيتهم يؤمنون بأن المرأة إنسان ناقص.
وعندما ظهر الدين الإسلامي الحنيف في الجزيرة العربية وكان المشرق العربي هو البيئة التي ظهرت فيها الديانات الثلاث الكبرى، اليهودية، المسيحية والإسلام.. كانت المرأة كائناً مهدور القيمة، مستباحاً في حياته، وفي حقوقه، عند معظم القبائل العربية والشعوب الأخرى - إلا ما ندر - وظاهرة وأد البنات عند قريش معلومة ومشهورة لدى المؤرخين، والظاهرة في ذاتها تكفي للدلالة على درجة العنف والقسوة الموجهين إلى المرأة آنذاك.
وكان واضحاً أن التعاليم الإسلامية قد ارتقت بالتفكير الإنساني، والمعتقدات الدينية لدى رجال ذلك العصر إلى مستوى أرقى مما كان عليه واقع الحال، فنهى الإسلام عن وأد البنات، فأصبحت بذلك حقوق المرأة في الحياة مصانة بنصوص قرآنية، وسنة نبوية صحيحة.
لقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوق الحياة، والعمل والميراث وغيرها، لكن بعض الحقوق التي نعتبرها اليوم من البدهيات ظلت محل أخذ وعطاء، ويميل بعض رجال الدين الى تفسير بعض النصوص بما يحقق للرجال سطوة ونفوذاً دائمين، ومازال النقاش بين هؤلاء محتدماً حول »القوامة«، وينكر بعضهم حقها في الولاية، فعندهم لا يفلح قوم ولوا عليهم امرأة.. كما يدعونا البعض الى الاعتقاد بصحة الحديث »النساء ناقصات عقل ودين«.. وقد فسرت الدونية في الدين على نحو يثير المزيد من المناقشات بين فقهاء الدين أنفسهم، ولكن الدونية في العقل لم تجد لها تبريراً معقولاً يدركه العقل الإنساني المسلم قبل الآخر دون اعتراض ، أو شك.
في القرن الثالث عشر كانت أوروبا حينها مازالت تحاول التماس طريق الخلاص، ويعتمل في واقعها أسباب جديدة للتحول، بدأت بالدين، وبالإصلاح الديني.. كان "توما الاكويني" وهو مصلح ديني مسيحي عاش في القرن الثالث عشر يرى ما كان يرى أرسطو رغم الفارق الزمني، والتطور الحضاري، فهو الآخر لم يرَ في المرأة سوى كائن خلق لأداء الواجبات الطبيعية في التكاثر والتناسل، وقد شك في المرأة، واعتزلها وعنده فهي لا تصلح أن تشغل أي منصب سواء أكان دنيوياً أو دينياً، وفكرة القوامة لديه بدت واضحة في بعض أفكاره، لقد تشابه الفيلسوف ورجل الدين المصلح كثيراً في قناعاتهما لتأكيد علاقة ما بين تفكير هؤلاء، وهؤلاء، وإن أنكرها بعضهم.. ولم يكن فلاسفة عصر الثورات عصر التنوير متفقين على رؤية واحدة إزاء المرأة، كانت أفكار أرسطو، والتعاليم الدينية عن المرأة قد حافظت على وجودها وامتدادها، وكان على المجتمعات الجديدة التي أخذت بأسباب التقدم- وهي مجتمعات غربية في معظمها-إن تتجاوز هذه المعتقدات عن المرأة، وأن تتمرد على بدهيات عصر الفلسفة القديمة، والعصور اللاحقة لها، وكان على المرأة أن تحصل تدريجياً على اعتراف بدأ يتقدم بقوة بحقوقها المدنية، بما فيها حقوقها السياسية، وقد تقدمت هذه الأفكار لتطرق مجتمعات الشرق التقليدية.. وكان طبيعياً أن ينهض علماء الدين أو قُل بعضهم بدرجة رئيسية للوقوف في وجه هذه الأفكار، لكنهم الآن لا يصمدون كثيراً أمام تقدم الحياة، بمؤثراتها الحداثية.
كان لهذا التراث إزاء المرأة تجلياته في واقعنا العربي الإسلامي، تجلياته الاجتماعية، والثقافية، وكان هذا التراث دينياً في الأساس لا فلسفياً، لأن الفلسفة والاتجاه العقلاني غير المصادم للدين قد تراجع في المجتمعات العربية الإسلامية منذ ابن رشد، وابن خلدون، وما بقي كان يعود في مضامينه الى عصور الانحطاط والتخلف، التي سادت بعد سقوط بغداد تحت وقع سنابك خيول التتار.
ولم يكن المجتمع اليمني بعيداً عن هذا الواقع، إن لم يكن يمثله تمثيلاً حقيقياً.. كان مجتمعنا في النصف الأول من القرن العشرين ذكورياً، محافظاً، تقليدياً، قبلياً، وكانت الأفكار حول المرأة تقليدية بطبيعتها، وما بدأ يتسرب من أفكار جديدة حول المرأة مما يمكن أن يُنظر إليه حينها باعتباره امتداداً لأيديولوجيات الإلحاد العلمانية القادمة من الآخر، وان معتنقي أفكار جديدة حول المرأة هم أيضاً ملحدون، وعلمانيون أو زنادقة.
لكن مؤثرات النهضة العربية التي بدأت مبكرةً قليلاً في مصر والشام قد أحدثت قدراً من التأثير المتنامي في التفكير الجمعي للمجتمعات العربية، ومنها المجتمع اليمني، وامتد هذا التأثير إلى التفكير السياسي كذلك، وفتحت نوافذ جديدة يمكن اعتبارها الإرهاصات الأولى لتغيير موقف المجتمع إزاء المرأة، والاعتراف لها بحقوق وعلى قدم واحد من المساواة مع الرجل.. وبصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948م أخذت المجتمعات العربية والإسلامية تصحو على وقع ثقافة إنسانية تتجاوز مسلَّـمات التراث، وترفض بإرادة عالمية التمييز بين الرجل والمرأة لأي سبب من الأسباب، وهذه الحقوق أصبحت أكثر وضوحاً في الميثاق العالمي لحقوق الطفل، والإعلان الدولي للقضاء على التمييز ضد المرأة.
وعندما قامت الثورة في اليمن بشطريه وأتيح للمجتمع اليمني التقدم نحو الحضارة الإنسانية، واستقل جزؤه الجنوبي من الاحتلال، وجدت أفكار تناصر المرأة وتعترف بإنسانيتها دفعة قوية، وحصلت المرأة وخاصة في الجنوب على حقوق كانت حتى أكثر من قدرتها على الاستيعاب، وأكثر تقدمية في محيط تتسم تكويناته الاجتماعية والثقافية بالتقليدية وسيادة ثقافة العصور الوسطى.
إلا أن التقدم الحقيقي في حياة المرأة وعلى وجه الخصوص في مجال الشراكة السياسية وفي تفكير الساسة والمهتمين بشأنها لم يحدث إلا فيما بعد قيام الوحدة التي يعود فضل تحقيقها إلى الرئيس علي عبدالله صالح ، وخلفه طلائع الوحدويين اليمنيين والمجتمع اليمني بأسره، هذا التقدم انعكس في أمور عدة، أولاً في الدستور اليمني، وثانياً في القوانين التي نظمت حياة المجتمع، في التربية، والصحة، والعمل والحياة السياسية، وثالياً: وهذا جوهري بسبب الإصرار الواعي للقيادة السياسية على التقدم بالمسار الديمقراطي في اليمن الى الأمام حتى في ظل مناهضة التيار التقليدي في المجتمع، وفي قضية المرأة فإن هذا التيار وحتى اليوم مثّل خصماً سياسياً للمرأة، وبقي في مواقع الخصومة معها لا يبارحها، وأنكر حقها في العمل والممارسة الديمقراطية والشراكة مع الرجل في إدارة الشأن العام، ويبدو أن هذه الخصومة اليوم تتراجع مع تقدم المرأة نفسها، علماً ، ومعرفةً وعملاً واقتصاداً.
وغدت أطروحات بحق المرأة في التعليم، والعمل، وتنمية وتطوير المعارف والمهارات، والمشاركة السياسية إلى جانب الرجل مما هو مألوف في الكتابات السياسية والخاصة بالمجتمع والمرأة معاً، ويترسخ على نحو مؤثر القول، بأن المجتمع لن يتقدم الا بتقدم المرأة، وضمان حقوقها، ومشاركتها في مجالات الحياة المختلفة وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات مع الرجل؛ وصحيح أن هذا الاعتقاد، وهذا القول يواجه رفض بعض المؤسسات التقليدية في المجتمع، لكنه يشق طريقه بنجاح، فيما يتراجع هذا الرفض، وتخفو أصوات دعاته تدريجياً، الأمر الذي يبعث مزيداً من الأمل لدى المرأة، والمرأة المتعلمة على وجه الخصوص.
اليوم المرأة في اليمن تلاحق المرأة في بلدان النهضة العربية الأولى في خطواتها نحو حقوقها كاملة، وفي حالات غير قليلة تحاكيها إنجازاً، وفي ظل التشريعات القانونية الحامية لحقوق المرأة اليمنية سوف تشهد العقود القليلة القادمة تحولاً جذرياً في واقع المرأة اليمنية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
وبوادر هذا النهوض نجدها في تحمّل المرأة اليمنية حقائب وزارية في الحكومات المؤتمرية، أي تعود إلى المؤتمر الشعبي العام، وإلى حكمة قيادته السياسية، التقدمية النهج، كما نجدها في عددها الذي سينمو قريباً في المجلسين التشريعيين، النواب والشورى القادمين، وبصورة تحقق لليمن كسباً جديداً، وفتحاً تحتاج شعوب عربية أخرى الى عقود للوصول إليه، كما أننا نستطيع أن نلمس هذا الحضور النسائي في المجالس المحلية، والإدارات الحكومية، هناك أكثر من 50 وكيلة على مستوى وزاري ونحو مائتي امرأة بدرجة مدير عام والآلاف من النساء والعاملات في مختلف المصالح الحكومية والقطاعات الاقتصادية والخدمية، وحتماً فإن ذلك يعود بدرجة أساسية إلى أن سياسة تعليم المرأة قد حققت نجاحات ملموسة خلال فترة الثلاثين عاماً هي فترة حكم الرئيس الصالح، وهي ذاتها فترة كان المؤتمر الشعبي العام هو الحزب الحاكم منفرداً بالسلطة، أو متحالفاً مع غيره لفترات غير طويلة..
لقد مثلت النصوص الدستورية المتقدمة حول المرأة المعترفة بمكانتها الاجتماعية المتساوية مع الرجل، وكذلك القوانين النافذة الاخرى التي التزمت هذه النصوص الدستورية، بيئة محفزة للمرأة وحامية لمكتسباتها أمام التيارات المناوئة.
وتدرك القيادة السياسية ان القوانين وحدها وإن مثَّـلت بيئة حماية لكنها ليست كافية، من هنا برز الاهتمام بتطوير الأداء المؤسسي، وتشجيع المبادرات الاجتماعية وخاصة في مجال تطوير مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني الحديثة، والتي تبرز بوضوح كيف أن المرأة اليمنية في المدينة على وجه التحديد، قد جارت شقيقها الرجل فيها، وفي حالات غير قليلة تجاوزته من حيث حسن الأداء وتحقيق الأهداف والنفع العام.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في 27 ابريل القادم- حتى وإن تأخرت المعارضة عن المشاركة فيها- تبدو فرص المرأة بالحصول على مقاعد أوفر، وأكثر عدداً أمراً محتوماً، وهذا الإنجاز إذا ما حدث- وسيحدث بكل تأكيد - فسيمثل انتصاراً غير مسبوق للمرأة في اليمن، وحدثاً غير عادي في المحيط الإقليمي، وفتحاً جديداً لقيم الحرية والعدالة والمساواة، وسوف يكون أثره مدوياً، وستصيب آثاره كثيراً من المسلَّمات التقليدية في حياتنا، في الوقت الذي سيؤسس لإنطلاقة تحول وتغيير حقيقية في واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. هذه الأفكار قد تبدو متفائلة كثيراً في مجتمع تتحكم فيه شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية، ولكننا نعتصم بالقول المأثور : "تفاءلوا بالخير تجدوه".
* الأمين العام المساعد للمؤتمر الشعبي العام لقطاع الفكر والثقافة والإعلام