صعدة برس-متابعات - * المقال التالي نشره موقع "ساسة بوست"، عن "نيويورك ريفيو اوف بوكس" للكاتب احمد رشيد، بعنوان "لماذا نبدو في حاجة إلى القاعدة؟"..
نص المقال:
هل تصير المجموعة التي ظلت تُصنّف لفترة طويلة على أنها التنظيم الإرهابي الأكثر دموية، الاختيار الأمثل المتبقي للولايات المتحدة وحلفائها بالشرق الأوسط؟
تتجلى في واشنطن وعواصم العالم الغربي حالة متزايدة من التشوش تجاه الوضع الراهن لتنظيم القاعدة ومستقبله. ويزعم دبلوماسيو ومعلقو الغرب أن تنظيم الدولة الإسلامية بشعبيته وتوحشه تجاوز بكثير قاعدة الجهاد وتفوق عليها. فيما يصر آخرون أن القاعدة تتوسع في سوريا واليمن، كما أنها لا تزال تتمتع بقوة على التربة الباكستانية والأفغانية حيث يقع مقر قيادتها، ويرى هؤلاء أن التنظيم لا يزال يشكل الخطر الإرهابي الأبرز بالنسبة للغرب.
وفي غضون ذلك، تشير الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط إلى تناقضٍ متزايدٍ في سياسات الغرب. ففي سوريا تقصف الولايات المتحدة جبهة النصرة، ذراع تنظيم القاعدة في سوريا، كما تقصف تنظيم الدولة الإسلامية على السواء. بينما تقدم بعض الدول الأعضاء بالتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية الذي تقوده الولايات المتحدة، بمن في ذلك تركيا والسعودية، دعمًا فعالاً لجبهة النصرة يتضمن المال والسلاح. وفي اليمن واصلت الولايات المتحدة تنفيذ حملة من الغارات الجوية بطائرات بدون طيار استمرت عامًا كاملاً ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والتي أثمرت مؤخرًا عن مقتل ناصر الوحيشي، زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. وعلى النقيض تمامًا، فإن معظم دول العالم العربي يصطفون مضطرين جنبًا إلى جنب مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في الوقت الحالي، وذلك خلال الحرب التي تقودها السعودية ضد المتمردين الحوثيين في ذات البلد. وبينما يلفت تنظيم الدولة كل الانتباه إلى قدرته على كسب الأراضي والحفاظ عليها وجذب آلاف المجاهدين من بلاد الغرب، لم يكن ثمة مزيد من البحث حول التأثير الدراماتيكي الذي خلّفه تنظيم الدولة على قاعدة الجهاد نفسها.
الحقيقة التي نحن بصددها أن القاعدة أظهرت تطورًا ملحوظًا منذ مقتل أسامة بن لادن وظهور تنظيم الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من الحملة المنظمة التي تقودها الولايات المتحدة وتحالفها الذي يتكون من ستين دولة، فإن تنظيم الدولة الإسلامية يزعم أنه يمتلك قوات برية في أكثر من عشر دول تمتد من تونس حتى وسط آسيا وباكستان، كما أنه يسعى خلف مشروع إقامة دولة الخلافة، الأمر الذي لم يتعدَّ مرحلة الأحلام التي تراود تنظيم القاعدة. ويتضح أن أخطر التداعيات التي قد تصاحب تنامي تواجد تنظيم الدولة الإسلامية على المدى البعيد، في أن يتسبب التنظيم بإطلاق حرب كبرى بين عموم الطائفة السنية وعموم الطائفة الشيعية، والتي قد تسبب انقسامًا بالعالم الإسلامي قد يستمر لعقود من الزمن.
وعلى الصعيد الآخر، فإن تنظيم القاعدة يشهد حالة واضحة من الانكماش. لكنه لا يزال يمتلك حضورًا بارزًا في سوريا والعراق واليمن، من خلال أذرع التنظيم في تلك الدول، كما أنه لا يزال مُلهمًا لمسلحي باكستان ووسط آسيا وأفغانستان، الذين يوفرون المأوى والقوى البشرية للتنظيم من أجل أن يحافظ على راية قيادته حية في ُيمنى أيمن الظواهري. أضف إلى هذا أن القاعدة وضعت نفسها في منأى عن نهج تنظيم الدولة من ناحية الأهداف والاستراتيجية والمعارك التي يخوضها التنظيم في كل من سوريا واليمن. ولذا فالسؤال الذي يلح علينا الآن هو: إن كانت القاعدة تتغير، فإلامَ تتغير؟ وهل تتغير إلى الأفضل أم إلى الأسوأ؟ وأي المميزات التي يمكن أن تمتلكها القاعدة في المواجهة المحتومة مع تنظيم الدولة؟
وإلى حد ما، يتسبب الحضور الملتبس للقاعدة في الصراع المستعر بالشرق الأوسط، في وجود اختلاف دراماتيكي بين الولايات المتحدة والدول العربية حول الآلية التي ينبغي أن تكون عليها الحرب ضد تنظيم الدولة. بل إن ثمة حربين كبريين وسط فوضى الصراعات المتزامنة التي تجري في سوريا والعراق وليبيا واليمن على قدمٍ وساق، وكل منهما يخاض منفصلًا وعلى نار هادئة. أولى الحربين تخوضها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب، الذين يحاولون هزيمة جبهة النصرة في سوريا وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب باليمن. يصاحب ذلك، الحملة التي تخاض ضد تنظيم الدولة الإسلامية. ومع هذا فإن الدول العربية لا تشارك إطلاقًا في تلك الحرب التي تخاض ضد القاعدة، كما أن تلك الدول لا تمد القوات الأمريكية التي تقود الحرب بالدعم الاستخباراتي.
أما الحرب الثانية – فهي على النقيض – تخوضها تركيا والدول العربية بالإقليم – وهم على وجه التحديد: السعودية، والإمارات، والأردن، ومصر – ضد الأسد والقوات الأخرى المدعومة من إيران بالمنطقة، بالإضافة إلى حربهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وفي تلك الأخيرة تسعى الدول العربية بصورة واضحة إلى تجنب قصف أو مهاجمة جبهة النصرة وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بل إنها تمدها الآن بالدعم المالي والسلاح. والسبب في هذا أن الجماعتين أعلنتا أهدافًا لا تختلف عن أهداف الدول العربية.
فجبهة النصرة صاغت هدفها الرئيسي وهو الإطاحة بنظام بشار الأسد، وهزيمة ميليشيا حزب الله الداعم لإيران، والقضاء على الدعم الإيراني للأسد. وعلى الجانب الآخر، يقاوم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ثورة الحوثيين، كما أنه يرغب في القضاء على التأثير الإيراني في اليمن. ولهذا أصبح كلا التنظيمين حلفاءً للدول العربية لا أعداءً لها، رغم أن القاعدة نفسها سعت في الحقيقة من قبل إلى الإطاحة بتلك الأنظمة.
ويقع كل هذا على خلاف تام مع غايات وأغراض الولايات المتحدة التي استمرت منذ فترة طويلة، فإن الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري مازالا يصران أن ذراعي القاعدة في اليمن وسوريا لا يختلفان عن تنظيم الدولة الإسلامية. كما تظل الحقيقة التي تقول أن كلتا الجماعتين دمويتان. وعلى وجه التحديد، أظهر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب خلال السنوات الأخيرة قدرته على التخطيط من أجل تحقيق طموحه في توجيه هجمات ضد أهداف غربية. ولا يزال العرب يبررون سلوكهم تجاه القاعدة زاعمين احتمالية تطور التنظيم. وقد استولت الجماعتان على مدن وأحياء في سوريا واليمن، لتصبح تلك هي المرة الأولى التي تسعى فيها القاعدة إلى السيطرة على الأرض. وكلتا الجماعتين وضعتا سياسات للسيطرة المحلية على المناطق التي تستوليان عليها، وتبدو تلك السياسات مغايرة تمامًا لما يتبعه تنظيم الدولة الإسلامية.
وبالنظر إلى حالة جبهة النصرة التي تعد المنافس الرئيسي لتنظيم الدولة الإسلامية بالأراضي السورية، فعلى عكس تنظيم الدولة الذي يطالب أهالي المناطق التي يسيطر عليها بالخضوع التام له (إما التسليم أو القتل)، فإن النصرة تتعاون مع جماعات أخرى مناهضة للأسد، كما أنها انضمت مؤخرًا إلى جيش الفتح، وهو اتحاد عسكري بين قوات المعارضة في شمال سوريا. علاوة على هذا، فإن قوات تنظيم الدولة الإسلامية تعتمد بصورة كبيرة على عناصر غير سورية بعكس مقاتلي النصرة؛ فتقريبًا كل عناصرها سوريون ما يجعلهم أكثر جدارة بالثقة والالتزام من أجل مستقبل سوريا. وفي غضون ذلك، تعهد قادة النصرة في المقابلة التي أجرتها معهم قناة الجزيرة، بعدم مهاجمة أية أهداف تنتمي للغرب، ما يعزز من بروز أيديولوجية يمكن تسميتها بـ”الجهادية القومية” بدلًا عن الجهادية العالمية. وفي الشهور الأخيرة، هدّأ قادة النصرة من النبرة التي تنادي بتطبيق نموذجهم الدموي المتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية، كما أنهم يؤجلون خططم الداعية إلى إقامة دولة الخلافة.
ويدلل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على الكثير من تلك التغيرات، فإن استيلاء ذراع القاعدة في اليمن على محافظة حضرموت جنوب شرقي البلاد يعد بمثابة علاقة ترويض واضحة. فقد استولت المجموعة على العاصمة مكلا ونهبت البنك، ثم انسحبت دون أن تدير الحكومة بنفسها أو تفرض قوانين الشريعة، بل عملت على تشكيل مجلس أهلي مشترك مع القبائل الحضرمية، كما حثوا المجلس على أن يصب اهتمامه على الحكم وتوفير الخدمات للأهالي.
في ظل هذا، سيتمكن القادة العرب من تحديد ما إذا كانت القاعدة تغيرت بالفعل من خلال سلوك التنظيم تجاه الطائفة الشيعية على المدى البعيد. فكل من القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية يبغض الطائفة الشيعية، لكن القاعدة حاولت في الماضي أن تجعل آراءها أكثر اعتدالًا، وتتجنب تلك الحرب الطائفية واسعة المدى التي يخوضها تنظيم الدولة الإسلامية في الوقت الحالي. ففي عام 1998 حذر أسامة بن لادن مقاتليه العرب ومقاتلي طالبان ليكفوا عن التقتيل المفرط لأبناء الطائفة الشيعية في أفغانستان. وأيضًا خلال ذروة الحرب في العراق عندما شن أبو مصعب الزرقاوي، زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، حملة دموية غير مسبوقة ضد الشيعة، وقتها حذره كل من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري من أجل التوقف عما يفعل. ويبدو أن جبهة النصرة وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب يحاولان تجنب أي نوع من التعصب الطائفي ضد الشيعة، إيمانًا منهم أن ذلك سيعيق تقدمهم في كسب مزيد من الأراضي. ولا يزال المعامل المجهول في تلك المعادلة هو إذا ما كان ذلك الاعتدال تجاه الأقليات، مثل العلويين واليزيديين في سوريا والعراق، سيستمر في حالة سيطر التنظيم كليًا على زمام الأمور في تلك الأراضي، كما يبدو مجهولًا أيضًا سلوكهم تجاه فكرة الدولة الكردية المستقلة شمال العراق.
وتوحي تلك الحالة من التقارب بين العرب والقاعدة بحقيقة فشل سياسات الولايات المتحدة، فإن جهودها لبناء ما يسمى بالمعارضة المعتدلة في سوريا من جانب، وجهودها من أجل جلب السنة والشيعة معًا تحت حكم النخبة الشيعية العراقية من جانب آخر، أصبحت جميعها استراتيجيات محكوم عليها بالفشل. وبعد أن وصلت الولايات المتحدة إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، فإن العديد من القادة العرب يرتأون أن الولايات المتحدة تتخلى عنهم.
ومع دخول أموال العرب إلى المعادلة بالإضافة إلى القليل من الإقناع، اكتسبت جماعتا النصرة والقاعدة في جزيرة العرب مزيدًا من القدرة على الحكم المحلي وبناء الدولة. وعلى الرغم من الأيديولوجية الجهادية البغيضة التي تؤمن بها الجماعتان، فإن تلك الجهود تشير إلى نتيجة قد تُرى أقل تهديدًا من تنظيم الدولة الإسلامية.
تقول بعض التقارير إن أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة أمر بأن يتم إيقاف الهجمات ضد الولايات المتحدة في الوقت الحالي من أجل السماح للقاعدة وأذرعها بأن يكونوا أكثر تركيزًا على شئون الشرق الأوسط. وكان لدى ناصر الوحيشي، الذي قضى في يونيو (حزيران) الماضي بهجوم لطائرات بدون طيار، وكذلك محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة وهو لا يزال حي يرزق، أوامر مباشرة أوضحها الجولاني في مقابلته مع الجزيرة، حيث قال: “التعليمات التي لدينا تحثنا على عدم اتخاذ بلاد الشام قاعدة لشن هجمات ضد الغرب وأوروبا حتى لا تتكدر الحرب الدائرة حاليًا”.
وقد أصبح مبتغى الدول العربية في سوريا، بعد وصول عدد القتلى إلى 230 ألف والمشردين إلى 7،6 مليون سوري، في سرعة إنهاء نظام الأسد وإيجاد حل قابل للتطبيق بالبلد المنكوب. وهم على دراية بأن المعارضة المعتدلة الضعيفة لن تتمكن من إيجاده، وأن أي محاولة للوصول إلى سلام دائم ستتطلب دعمًا من الجماعات الإسلامية القوية والشرسة التي تقاتل هناك.
ويتبع الملك سلمان سياسة تتسم بالعداء الكبير تجاه إيران وسوريا، وذلك منذ تربعه على عرش السعودية في يناير 2015. وهو على استعداد بأن يتقارع كئوس الشراب على مأدبة الشيطان، حتى إن كان هذا الشيطان القاعدة نفسها، من أجل تحقيق أهدافه. ومع الإذلال الذي تشعر به تركيا بعد أن فقدت سيطرتها في المنطقة، فهي الأخرى تنشئ حاليًا على ترابها مركزًا للتحكم والقيادة لجبهة النصرة.
على الغرب إدراك أن القوى على الأرض تتحول بسرعة في منطقة الشرق الأوسط، وأن الربيع العربي على وشك التحول إلى شتاء إسلامي أصولي، سواء أراد الغرب ذلك أو لم يرد. فالولايات المتحدة دفعت ثمنًا مريرًا في التراجع عن دعم الدول العربية لإزاحة الأسد لأربع سنوات، عندما كان هناك معارضة معتدلة يمكنها تولي زمام الأمور. ولا ينبغي علينا أن نندهش إن بدأت محادثات رسمية بين تنظيم القاعدة وتلك الدول العربية في الأشهر القادمة. وحينها، ستكون الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الغائب عن طاولة المفاوضات. |