صعدة برس - وكالات - كثَّفت السلطات الروسية في الفترة الأخيرة استخدامَها لتقنية “التعرف على الوجه” لتعقُّب المحتجين المعارضين إلى منازلهم واعتقالهم، ومع الوقت باتت تلك التقنية أداة جديدة فعالة يعتمد عليها الكرملين على نطاق واسع لسحق قوى المعارضة.
في المقابل، عندما يُشتبه في ارتكاب عناصر أمن تابعين للدولة جرائم قتل أو اعتداء على صحفيين أو نشطاء معارضين، فإن كاميرات المراقبة كانت، في مناسبات عدة، مغلقةً بطريقة ما أو “معطلةً” وخارج الخدمة.
وزاد على ذلك أن المنظومة مليئة بالخروق من داخلها لدرجة أنه يمكن شراء بيانات المراقبة الخاصة بالأفراد، وأي نوع من المعلومات الشخصية الأخرى، مقابل مبلغ بسيط من المال في السوق السوداء الروسية سيئة السمعة، وقد بلغت الظاهرة من الانتشار أن بات لهذه السوق الإلكترونية السرية اسماً معروفاً بين كثيرين: probiv.
تتصدر الصين قيادة العالم في الاستعانة والترويج لشبكة واسعة النطاق من تقنيات التعرف على الوجه، وقد استخدمت الصين شبكة من هذا النوع لتتبع وقمع أقلية الإيغور المسلمة، لكن ذلك لا يقلل من جهود روسيا بوتين التي ما انفكت تبذل مساعي حثيثة في سباق اللحاق بالركب، بحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
التجسس على المعارضين مهمتها
تنتج شركات روسية، مثل شركة NtechLab، بعضاً من أكثر برامج التعرف على الوجه تطوراً في العالم، والتي يُستعان بها لخدمة جهود السلطات الروسية في التصدي لضربات المعارضة، التي عمدت إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفضح اللصوصية والفساد الحاكم للبلاد، وما يتضمنه ذلك من ممارسات الإسراف الباذخ لحلفاء بوتين السياسيين، على سبيل المثال.
وقال عمدة موسكو، سيرغي سوبيانين، إن نظام التعرف على الوجه -الذي طُرح في حزمة واحدة جماعية بدأت بمدينة موسكو في يناير/كانون الثاني وتوسعت لتشمل 10 مدن روسية أخرى على الأقل- بات يُستخدم الآن في 70% من التحقيقات الجنائية. وموسكو لديها بالفعل أكثر من 189 ألف كاميرا مزودة بإمكانات التعرف على الوجه، بالإضافة إلى أكثر من 12300 كاميرا في عربات مترو الأنفاق في خطوط المترو التابعة للمدينة.
بدوره، يقول سركيس داربينيان، وهو محامٍ حقوقي في منظمة “روسكومسفوبودا” Roskomsvoboda، وهي منظمة معنية بالدفاع عن الحقوق الرقمية ومقرها موسكو، إن تقنيات التعرف على الوجه “لا تنفك تُستخدم أكثر فأكثر ضد المتظاهرين والنشطاء، إذ تلتقط كل هذه الكاميرات وجوه الأشخاص الذين يذهبون إلى أي مظاهرة ثم يُحتفظ بهذه المعلومات في المنظومة الرقمية” التابعة للسلطات.
وأشار داربينيان إلى أنه خلال المظاهرات التي شهدتها البلاد في شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط للاحتجاج على اعتقال زعيم المعارضة أليكسي نافالني، تلقَّت منظمة “روسكومسفوبودا” أكثر من عشرة تقارير عن اعتقال متظاهرين في منازلهم أو من مترو الأنفاق، على نحو يشي باستعانة السلطات بأنظمة المراقبة الرقمية.
“معسكر اعتقال رقمي”
باتت تقنيات المراقبة والتعرف على الوجه تستخدم استخداماً متزايداً في جميع أنحاء العالم لصالح سلطات إنفاذ القانون، وهو ما أثار في الجهة المقابلة قلقاً متنامياً بين المنظمات والمجموعات المدافعة عن الحريات المدنية بشأن حقوق الخصوصية.
استخدم مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) تقنيات التعرف على الوجه ومقاطع الفيديو التي التقطتها كاميرات المراقبة ووسائل رقمية أخرى للتحقيق في هجمات 6 يناير/كانون الثاني الماضي على مبنى الكابيتول الأمريكي. وفي بريطانيا، خسرت شرطة جنوب ويلز العام الماضي قضيةً، وُصف حكمها بأنه تاريخي، عندما قضت إحدى محاكم الاستئناف بأن تقنية التعرف على الوجه تنتهك الحق في الخصوصية وقوانين المساواة.
غير أن الأمر يختلف تماماً عن ذلك في الدول الاستبدادية.
يقول سيرغي أبانيشيف، أحد المتظاهرين الذين اعتُقلوا بعد القبض عليه عن طريق الاستعانة بتقنيات التعرف على الوجه، إنه “بدلاً من استخدام النظام الرقمي لصالح المدينة، يُستخدم أداةً للمراقبة الشاملة والسيطرة الكاملة على المواطنين”.
من جهة أخرى، يشير داربينيان، المحامي الحقوقي، أن نشر الخوف وردع أي نشاط مناهض قد يكون تحديداً الهدف الذي تسعى إليه السلطات.
ويوضح داربينيان بالقول: “إذا علم أي شخص أنه يُمكن تعقبه بسهولة، فإنه قد يغير سلوكه. ويقرر مثلاً عدم الذهاب إلى مسيرة أو عدم المشاركة في مظاهرة، أو ربما حتى عدم الذهاب إلى المسجد للصلاة، لأن كل هؤلاء باتوا يعرفون أنه يُمكن تعقبهم”.
ألقت قوات الأمن القبضَ على الناشط ميخائيل شولمان داخل محطة مترو في 31 يناير/كانون الثاني مستعينةً للتحقق منه بتقنية التعرف على الوجه. بعد الإفراج عنه، قال شولمان في مقال نشره على موقع منظمة Roskomsvoboda الإلكتروني، إن الأمر جعله يشعر كأنه يعيش في “معسكر اعتقال رقمي”.
سوق سوداء لبيع وشراء البيانات المسروقة
تذهب بيانات المراقبة الخاصة بتقنيات التعرف على الوجه إلى قاعدة بيانات مركزية، تُدعى “المركز المتكامل لمعالجة البيانات وتخزينها”، ويُتاح الوصول إليها لأجهزة إنفاذ القانون وبعض الموظفين والمسؤولين في الجهاز الحكومي. لكن مسؤولين فاسدين باتوا يبيعون بيانات مسربة من قاعدة البيانات الحكومية في السوق السوداء المزدهرة لتداول البيانات الرقمية المسروقة في روسيا، والمعروفة باسم probiv، ويشمل ذلك: سجلات الرحلات الجوية وسجلات الهواتف المحمولة وغيرها من البيانات.
مع الوقت، باتت البيانات المسرَّبة تستخدم بأكثر من طريقة، فالصحفيون الاستقصائيون الروس يستخدمونها للتحقق من الانتهاكات المزعومة للمسؤولين، وكذلك يستخدمها المجرمون لتتبع أهدافهم المحتملة، وغيرهم يبحث عنها للابتزاز أو التطفل على المنافسين أو الأزواج أو الموظفين أو الشركاء التجاريين.
اشترى الصحفي الاستقصائي أندريه كاغانسكي، من موقع MBKh Media، وصولاً لمدة خمسة أيام لبيانات المراقبة الخاصة به من عدة كاميرات وتقرير من 80 صفحة يتتبع وجهه على مدار شهر واحد. وذكر كاغانسكي أن 30 ألف روبل (نحو 400 دولار) كافية لشراء وصول مباشر شامل لجميع كاميرات النظام.
لمواجهة ذلك، بدأت السلطات الروسية في اتخاذ إجراءات صارمة ضد سوق البيانات الرقمية المسربة، واعتقلت ضابط شرطة بتهمة التجارة في بيانات مسروقة وحقَّقت مع آخر.
ومع ذلك، فإن تلك الكاميرات ليست مسلَّطة على الجميع.
عمدت “مؤسسة نافالني لمكافحة الفساد” إلى تحليل خريطة رقمية لكاميرات التعرف على الوجه الموجودة على المباني في مدينة موسكو، ليتبيَّن لها أن أياً من تلك الكاميرات ليست موجودة في الكتل السكنية التي يعيش فيها كبار المسؤولين.
كانت واقعة التسميم التي تعرَّض لها المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني قد كشفت بجلاء كيف تراقب أجهزة الأمن باستمرار الصحفيين وشخصيات المعارضة، لكنها تعمد إلى إغلاق كاميرات المراقبة عند التحرك للهجوم على المعارضين والصحفيين.
وفي هذا السياق، أصدرت “جمعية حماية الإنترنت”، وهي منظمة دولية غير ربحية معنية بمعايير وسياسات الاستخدام النزيه للإنترنت، تحذيراً عن “اتجاه جديد مقلق” تنتهجه السلطات الروسية بعد إيقاف وصول الجمهور إلى لقطات كاميرات المراقبة المباشرة في ست مدن روسية كبرى خلال احتجاجات يناير/كانون الثاني الماضي.
ويقول ميخائيل كليماريف، المدير التنفيذي لـ”جمعية حماية الإنترنت”، إن الشرطة تريد بهذا النهج على ما يبدو الحيلولة دون أي إشراف على الأفعال التي يرتكبها أفرادها للسيطرة على الاحتجاجات.
كما لفت المحامي الحقوقي كيريل كورتييف إلى أنه لا توجد أي معايير أو قواعد فعالة لتنظيم كيفية استخدام أجهزة إنفاذ القانون لتقنيات التعرف على الوجه وكاميرات المراقبة.
ولخص كورتييف الأمر بالقول: “المنظومة مصمَّمةٌ بحيث لا توجد طريقة لمحاسبة القائمين عليها أو التساؤل عن كيفية عملها”. |