صعدة برس - وكالات - سوريا تشهد أزمة اقتصادية غير مسبوقة تُهدد بتدمير ما تبقَّى من أركان النظام والنجاح فيما فشل فيه ثوار الشام قبل 10 سنوات.. الوضع الراهن وسيناريوهات المستقبل
في الأسابيع الأولى من عام 2021، دعا بشار الأسد مجموعة من الصحفيين الموالين إلى لقاء تضمَّن أكثر من مفاجأة.
الأولى أنه اختار “الصراحة” عند الحديث عن الأزمة الاقتصادية.
قال “الاسد” إنه لا يملك حلولاً ملموسة للمحنة الشديدة التي تمر بها البلاد وتؤرق الشعب.
وأظهر الرجل دون تردد عجزه عن فعل أي شيء.
سأله أصدقاؤه “الموالون” عن انهيار العملة الذي أضر بالرواتب.
والارتفاع الهائل لأسعار السلع الأساسية.
والنقص الحاد في الوقود والخبز.
وكان رده الوحيد مفاجأة أخرى، فقد طلب من القنوات التلفزيونية “إلغاء برامج الطهي حتى لا تعذب السوريين بتصوير وجبات بعيدة عن متناولهم”!.
صحيفة New York Times التي نقلت إجابات الأسد، قالت في تقريرها إن التهديدات المباشرة للأسد لم تعُد فقط الفصائل المتمردة والقوى الأجنبية التي لا تزال تسيطر على مساحات شاسعة من البلاد، تصل إلى نحو 30%.
ما يهدد الآن بإسقاط الأسد من عرشه هي الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أعاقت جهود إعادة إعمار المدن المدمرة، وأدت إلى إفقار السكان، حيث بات العديد من السوريين يكافحون للحصول على ما يسد رمقهم من الغذاء.
الأزمة التي يمر بها الاقتصاد السوري هي الأسوأ منذ بداية الحرب عام 2011.
إذ تراجع سعر الليرة مقابل الدولار بالسوق السوداء في ربيع 2021 إلى أدنى مستوياته على الإطلاق.
انخفضت قيمة الرواتب وارتفعت تكلفة الواردات.
قفزت أسعار المواد الغذائية بأكثر من الضعف خلال العام المنصرم، حتى إن برنامج الغذاء العالمي حذر من أن 60% من السوريين، أي 12.4 مليون شخص، باتوا معرضين لخطر المجاعة.
إنها أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تُهدد بتدمير ما تبقى من أركان النظام.
تهدد حتى الأقلية العلوية، التي يعتمد عليها النظام في العديد من المؤسسات والأجهزة الأمنية، وخاصة في الشرطة السرية والقتال في صفوف الجيش.
هكذا تطورت محنة الحرب الأهلية السورية التي التهمت الحجر والبشر في 10 سنوات عجاف، لتقترب من وضع لافتة “النهاية” المؤلمة للمحنة.
لكنها ليست أبداً نهاية سعيدة، حتى لو كانت تعني انهيار نظام الديكتاتور، والبحث عن بدائل له وسط الركام.
هذا التقرير يستعرض الأزمة غير المسبوقة للاقتصاد السوري في ظل الحرب، والمصاعب التي تواجه المواطن السوري للحصول على عمل وطعام، بعد أن التهمت وحوش البطالة والتضخم وانهيار الليرة كل شيء، ووضعت رأس النظام في متاهته الأخيرة.
بداية الانتفاضة:فتش عن الاقتصاد
في موعدها قبل 10 سنوات خرجت المظاهرات في مدن سوريا.
في 2011 تظاهر السوريون ضد بطش النظام وطغيانه، لكنهم في 2021 تظاهروا ضد الفقر والبطالة وضيق العيش.
خرجت مظاهرات في مدن وبلدات شمال غربي سوريا، إضافة إلى درعا في الجنوب، إحياء للذكرى العاشرة للثورة السورية، في ظل ظروف اقتصادية صعبة يعيشها السوريون في الآونة الأخيرة أدت إلى ارتفاع نسبة الفقر في البلاد 86 ضعفاً بحسب أرقام الأمم المتحدة.
منذ اندلاع الثورة السورية يكافح نظام بشار الأسد من أجل إبقاء الحياة مستمرة حتى في قلب منطقته الحيوية، إلا أن الحرب دمرت جزءاً كبيراً من البلد الذي يسيطر الأسد على ثلثي أراضيه، فضلاً عن أن النظام يواجه أيضاً عقوبات غربية.
يدخل الصراع في سوريا الآن عامه الـ11 ليتحول إلى أحد أطول الصراعات وأكثرها ترويعاً في التاريخ، حيث تسبب في مقتل أكثر من نصف مليون سوري، وفي معاناة إنسانية غير مسبوقة ما زالت مستمرة، فيما لم يظهر الرئيس “المستبد” بشار الأسد أي التزام حقيقي حتى الآن بحل سياسي مدعوم دولياً للصراع.
العنف الذي بدأه الأسد شكل أكبر كارثة بشرية من صنع الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن العنف لم يهدد عرش بشار.
وانتفاضة الثوار التي اندلعت في 2011، لم تنجح حتى الآن في إسقاط الطاغية، لكن يبدو أن الانهيار الاقتصادي الشامل سينجح.
فقد الاقتصاد السوري خلال عشر سنوات من أزمة مستمرة وحرب طاحنة متعددة ثلثي مقدراته. وبفعل تبعات الحرب والعقوبات أضحت غالبية السوريين تحت خط الفقر.
قبل الكارثة بأعوام قليلة
اعتمدت سوريا في اقتصادها قبل الحرب على دعائم متينة وقوية، نظراً لموقعها الاستراتيجي في التبادل التجاري، ومناخها وتربتها الخصبة ومصادرها المائية العديدة، إضافةً إلى مدنها الصناعية التي كانت تُعتبر إحدى أهمّ مدن الشرق الأوسط.
نهايات عام 2010، شهدت سوريا تطوراً متسارعاً في مدخلات الاقتصاد السوري، من حيث الصناعة والزراعة والسياحة، وباتت سوريا دولة تعتمد على الاكتفاء الذاتي، لديها صفر مديونية.
كانت سوريا بوابة عبور الشرق إلى الغرب، ونافذة أوروبا إلى العالم العربي، لأسباب عديدة.
كانت نسب الأمان المرتفعة تجذب لها ملايين السيّاح حول العالم، ليطّلعوا على حضارة تلك البلاد العريقة.
وكانت حلب في أوج ازدهارها حين كان يُصدَّر الفائض الوفير من منتجاتها إلى كلٍّ من العراق ولبنان والأردن ودول الخليج، إضافةً إلى تركيا وأوروبا.
كلّ تلك الدول كانت سوقاً مفتوحاً أمام المنتجات السورية المختلفة، منها النسيجية والهندسية والميكانيكية والورقية والغذائية، إضافةً إلى الصناعات الكيميائية كالأدوية ومواد التجميل والبلاستيك والصابون المصنّع من زيت الزيتون السوري وورق الغار الحلبي.
لكن الفقر حط الرحال في قلب الشام، حتى قبل سنوات من الانتفاضة، والآن أصبح مقيماً لا أحد يعرف له موعداً للرحيل.
الجفاف القياسي الذي اجتاح القطاع الزراعي في سوريا بين 2007 و2010 ساهم في اندلاع الانتفاضة.
هذا ما يذهب إليه باحثون أمريكيون، قالوا في دراسة أكاديمية إن هذا الجفاف كان الأكثر حدة في السجلات المناخية.
ضرب المنطقة الزراعية الرئيسية في شمال سوريا، وأجبر مئات الآلاف من المزارعين ومربي الماشية المفلسين على النزوح نحو المدن.
في حمص ودمشق ودرعا وغيرها كان الفقراء الوافدون شرارة الثورات وفق الدراسة. “ليس الجفاف هو سبب الحرب، لكنه أضيف إلى جميع العوامل الأخرى، ليساهم بهذا الشكل في الصراع”.
كانت النتيجة أن انخفض الإنتاج الزراعي بأكثر من %30 قبيل الحرب. وبينما كانت الزراعة تساهم قبل ذلك بربع الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، مثلت منه بالكاد 16% في 2010.
انخفض إنتاج القمح مثلاً إلى النصف في ذلك العام البعيد جداً، القريب جداً.
ماذا يفعلاقتصاد الحرب بالسوريين؟
اقتصاد الحرب يعني تنظيم الأنشطة الاقتصادية لبلد معين بهدف إعادة توزيع الموارد والثروات التي يمتلكها هذا البلد، وتوجيهها لضمان تحقيق الانتصار العسكري.
يتميّز اقتصاد الحرب، وخاصة في الحروب الأهلية بملامح عامة.
في السطور التالية نستعرض أبرز ما تعرضت له سوريا منها منذ 2011:
التحايل على الاقتصاد النظامي وتدميره.ونمو الأسواق غير النظامية والسوداء.وسيادة السلب، والابتزاز، والعنف المتعمّد ضد المدنيين من قبل المقاتلين لاكتساب السيطرة على الأصول المربحة، واستغلال اليد العاملة. اقتصاد الحرب يتّسم باللامركزية، ويزدهر فيه الاعتماد على التهريب، واستغلال الأقليات من السكان.انكشاف الاقتصاد واعتماده على الواردات والتمويل الخارجي والمساعدات.تدهورت نسبة الصادرات إلى الواردات بشدة.فقدان الثقة بالليرة السورية عبر انتشار “الدولرة” في البيع والشراء.
والنتيجة: مع نهاية عام 2014، صنّف تقرير الأونروا 82% من الشعب السوري في فئة الفقراء.
لكن الوسطاء هم أغنياء الحرب في كل مكان وزمان.
العقوبات أجبرت الدولة والمستثمرين البارزين للبحث عن وسطاء لإتمام صفقاتهم.
هؤلاء الوسطاء تحولوا تدريجياً ليصبحوا الأثرياء الجدد.
فقد منحت الحكومة رخص تأسيس شركات جديدة غير مدرجة في القوائم السوداء، لطمس تفاصيل المعاملات المالية والتجارية، وإخفاء مصدر الأموال ووجهتها.
تتعامل هذه الشركات المؤسسة مع وسطاء، يتعاقدون بدورهم مع الموردين، عن طريق مصرف يقع مقره خارج سوريا.
وفي كل مرحلة يتم فرض رسوم وتوليد هوامش ربحية جديدة.
هكذا يحقّق الوسطاء أرباحاً ضخمة.
وهكذا ترتفع التكلفة الإجمالية للمنتجات، والتي يتحملها بدوره المواطن السوري.
الليرة السورية تواصل السقوط الحر
انخفاض قيمة العملة المحلية في البلاد أدى إلى زيادة التضخم، ما جعل السوريين يكافحون لشراء سلع أساسية مثل الغذاء والطاقة.
رئيس النظام السوري، بشار الأسد، قد دعا، يوم الثلاثاء 30 مارس/آذار المنصرم، إلى معاقبة التجار المتربحين من انهيار العملة المحلية، لافتاً إلى أنه أبلغ مجلس الوزراء أن الهبوط الحاد في سعر صرف الليرة السورية يجب التعامل معه على أنه “معركة” ستخسرها مؤسسات الدولة إذا لم يقف المواطن معها.
في بدايات مايو/أيار 2021 شهدت السوق الموازية للعملة انتعاشاً متصاعداً داخل البلاد، وسط تراجع وفرة النقد الأجنبي، ليسجل الدولار الأمريكي الواحد في التعاملات غير الرسمية اليوم 3300 ليرة، مقارنة مع 1257 للسعر الرسمي.
النتيجة؟
أصبحت رواتب الجنود والموظفين الحكوميين تساوي جزءاً بسيطاً مما كانت عليه في السابق، خاصة مع ارتفاع التضخم، والانخفاض الحاد في الليرة السورية.
تغريدة عن انهيار الليرة من رضوان زيادة، باحث سوري مقيم في أمريكا
زادت الأوضاع الاقتصادية في سوريا سوءاً مع هبوط سعر الليرة السورية إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، حيث يعادل الدولار الواحد 4 آلاف ليرة، وفي لبنان المجاور، حيث يرتبط الاقتصاد ارتباطاً وثيقاً باقتصاد سوريا، تراجعت العملة المحلية إلى مستوى غير مسبوق، بواقع 12 ألف ليرة مقابل الدولار.
وتقول الباحثة والناشطة الحقوقية المتخصصة في الشأن السوري، إليزابيث تسوركوف Elizabeth Tsurkov في هذا السياق: “هذه كارثة لأن كلا البلدين يعتمدان بشكل كبير على الواردات، وقد دُمّرت الصناعات المحلية خلال الحرب الأهلية في البلاد”.
تغريدة للباحثة إليزابيث تسوركوف عن انهيار الليرتين، السورية واللبنانية
ترجمة: احتمال حدوث مجاعة في كل من لبنان وسوريا أصبح أكثر وضوحاً يوماً بعد يوم
انهيار احتياطي العملة وارتفاع التضخم والأسعار
رغم إبقاء السرية حوله، فقد انهار احتياطي العملة الأجنبية الذي كان مقدراً بـ21 مليار دولار قبل الصراع. وبوجود خزينة فارغة تقريباً، تواصل الحكومة في ظلها دفع الرواتب لموظفيها ومنحهم زيادات في الأجور، سرعان ما يلحقها التضخم.
وبحسب جولة على أسعار سوق المواد الغذائية في مدينة حلب بداية مارس/آذار 2021، بلغ سعر كيلو لحم الغنم 21 ألف ليرة سورية.
طبق البيض 6 آلاف ليرة.كيلو البندورة (الطماطم) 1200 ليرة.كيلو البطاطا 750 ليرة.كيلو التفاح ألف ليرة.
هذه الأسعار التي جعلت المدنيين يحجمون عن الشراء تضاعفت 2000% منذ نحو 10 سنوات.
نعم، أكبر 2000 مرة من مثيلاتها في عام الأساس وهو 2011، وفق ما أعلن المكتب المركزي للإحصاء في سوريا.
مشوار التضخم الاقتصادي في سوريا بدأ منذ تأخر النظام السوري في الاستجابة لمطالبة الثورة، واستخدام الآلة العسكرية والاستعانة بجيوش الدول لإنهاك الجسد الاقتصادي السوري المتعب أصلاً قبل عام 2011.
وعلى الفور بدأ انفلات الأسعار من عقالها وهبوط المستوى المعيشي للمواطن السوري، والدخول في مرحلة مخيفة من الجوع والفقر لم يسبق لها مثيل في تاريخ سوريا المعاصر، كما يشرح المحلل الاقتصادي الدكتور أسامة قاضي.
البنك المركزي السوري في رأي أسامة القاضي، تحول إلى فرع أمن يملك محل صرافة كبيراً يحتكر سوق الصرافة، ويفرض أسعاره بقوة الأمن والبطش وإغلاق محال الصرافة.
ويزج بالصرافين في السجون بحجة ضبط سعر الصرف.
ومن مهامه طباعة عملة لا قيمة لها بفئات 5 آلاف و10 آلاف.
استمرار التضخم بمعدل 50% كل عام يعني أن سعر الليرة السورية عام 2025 سيصل إلى 14 ألفاً و500 ليرة للدولار الواحد، وعندها سيصل التضخم ما بين 2011 و2025 إلى 29000%.
“الشبيحة” يتحكمون في اقتصاد الظل.. وأكثر
مع كل مرحلة جديدة تدخلها سوريا يتهاوى معها ذلك الاقتصاد، حتى بلغ العجز مبلغاً لا تشفى بعده البلاد إلا بسنوات طويلة.
ما يزيد الجراح عمقاً، أسباب كثيرة، في مقدمتها تعنت النظام.
والعقوبات التي فرضها العالم عليه.
وزيادة نسبة الفساد.
أسهم ذلك في تمدد الاقتصاد الموازي المسمى “اقتصاد الظل” على حساب اقتصاد البلاد الطبيعي.
وفي هذا الصدد، يقول يونس الكريم، الخبير في الشأن الاقتصادي السوري، إن اقتصاد الظل في سوريا مركب ومعقد، وتحول بعد عقد على الثورة إلى اقتصاد واقع مع محاولة النظام إعطاءه الشرعية من خلال قوانين تضعف قدرة الدولة على التصدي له.
بعد 10 سنوات وعقب الصدام الذي جرى مع تيار رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد، أصبحت زوجته أسماء الأسد وتيارها في صدارة اقتصاد الظل.
ليس مجرد منظومة “اقتصاد ظل”، بل الأمر يتجاوز ذلك كثيراً.
المدير التنفيذي في مجموعة عمل اقتصاد سوريا تمّام البارودي يطلق مصطلح اقتصاد “الشبيحة” بدلاً من اقتصاد الظل الذي يُدار من رجال أعمال موالين للنظام السوري. وقال البارودي لـ”الجزيرة نت”، إن النظام صدّر وجوهاً جديدة لإدارة مقدرات الشعب وأرزاقه حيث يتاجرون باستيراد الأرز والزيت والسكر وغيرها دون أن يكون هناك أي دور للدولة فعلياً.
حتى إن المتحكمين في اقتصاد الظل والشبيحة يتصارعون علناً على الكعكة الحرام التي يسرقونها من دم ولحم المواطن السوري.
تركت المعركة الاقتصادية بين رامي مخلوف وأسماء الأخرس آثارها على الاقتصاد بشكل كبير، وكان ذلك بحديث مباشر من بشار الأسد الذي قال في وقت سابق إن سبب انهيار اقتصاد البلاد لا يقع على عاتق العقوبات الأمريكية فقط، بل إن محاولات إخراج الأموال من البلاد التي تقدر بالمليارات كانت أبرز الأسباب.
الباحثون عن الخبز في طوابير لا نهائية
تغير السوريون كثيراً في الحرب، بعد أن اختفت الأخبار السعيدة، والابتسامات.
نهاية 2020 رفعت الحكومة أسعار الخبز بنسبة 100%، وانتقلت الطوابير الطويلة من محطات الوقود إلى المخابز. قد يستغرق الوصول من نهاية الطابور إلى الخباز بين 3 إلى 4 ساعات.
الخبز لم يعد متوفراً بسهولة في جميع المحافظات السورية التي تعيش تحت سلطة النظام السوري. ونقل تقرير لوكالة رويترز عن شهود أن مشاجرات تنشب بين الواقفين في هذه الطوابير رغم أن المعارضة السافرة للسلطات لا تزال نادرة نسبياً وسط مخاوف من قمعها بالقوة.
برر المدير العام للمؤسسة السورية للمخابز زياد هزاع الأزمة بأن هناك صعوبة في تأمين مادة القمح وتكاليف عالية حتى يتم إنتاج الرغيف، بينما اعتبر يونس الكريم، الباحث في الشؤون الاقتصادية السورية، أن إفلاس البنك المركزي هو أبرز الأسباب: “روسيا تريد تصدير القمح للنظام بشرط أن يدفع نقداً”.
زادت المشكلة المالية في لبنان وأزمة البنوك من الصعوبات على النظام السوري الذي يستخدمها عادة للحصول على السلع الأساسية ومنها القمح، بالإضافة إلى تعطل ميناء بيروت الذي يعتبر طريق واردات النظام السوري.
هناك أسباب أخرى غير إفلاس المركزي.
الفساد الذي يضرب جميع المؤسسات.
كميات الخبز الكبيرة التي تذهب إلى جيش الأسد والقوات الموالية له دون رقابة، ويقدرها البعض بين 15 و20 مليون رغيف شهرياً، يتم بيع بعضها لاحقاً على أنها أعلاف للحيوانات.
هناك أيضاً تدهور الزراعة السورية في المحافظات الرئيسية المنتجة للقمح مثل محافظتي درعا والسويداء اللتين تنتجان 20% من احتياجات سوريا، كما يتم منع قمح محافظات شمالي شرق البلاد عن النظام حيث تنتج 60% من الاحتياج العام.
والكمية الباقية لا تكفي احتياجات النظام.
عاصفة الفقر الجديدةفي 2021
لم يهنأ السوريون كثيراً بهدوء جبهات القتال في أكثر من منطقة، حتى اشتعلت جبهات أخرى أكثر صعوبة، ليجدوا أنفسهم وقد خرجوا من الكفاح الأصغر إلى الكفاح الأكبر: الأزمة الاقتصادية الطاحنة.
بدأت العاصفة الجديدة في مارس/آذار 2021 بزيادة أسعار البنزين من 1250 ليرة إلى 2000 ليرة للتر الواحد، أي بمعدل 75%، فيما قفز بنزين أوكتان 90 من 250 إلى 750 ليرة، بعد رفع الدعم عنه.
في السطور التالية نطالع يوميات المواطن السوري مع اقتصاد في حالة انهيار، والسيناريوهات الثلاثة التي قد ينجم عنها الوضع الراهن.
يوميات الحرب التي يعيشها كل سوري
في ظل هذا العجز الحكومي عن الرقابة أو إيجاد الحلول المطلوبة، لجأ الناس إلى المبدأ المعروف سورياً “دَبِّر راسك”، بمعنى أن أحداً لن يساعدك لأن أحداً لا يفكر فيك.. وعليك أن تتأقلم، وتبتكر طرقاً للعيش وسط الفقر والدمار والموت الذي يسكن الزوايا.
فيما يلي بعض الإجراءات التي اتّبعها عموم الناس للتعامل مع اقتصاد الحرب، عبر إجراءات فرضتها الضرورة:
دعا رئيس اتحاد غرف التجارة السورية غسان القلاع إلى ضرورة تغيير العادات الاستهلاكية ضمن حدود الحاجة فقط.
لجأ كثيرون لتغيير العادات الاستهلاكية وصولاً إلى بدائل بعضها قانوني وآخر مخالف للقانون.
اختفت الفواكه ومعها الكثير من الأغذية الضرورية، واكتفى السوريون بتناولها في المواسم الرخيصة فقط.
كثير من الحاجات الضرورية من موائد السوريين، بات تناولها شهرياً أو موسمياً بدلاً من تناولها يومياً. ودفع الغلاء الفاحش كثيراً من السوريين، كما ذكرت وسائل الإعلام المحلية، إلى استبدال اللحم أو الدجاج بمكعبات بودرة الدجاج والسمنة بالزيت أصبحت بديلاً عن اللحم والدجاج.
زاد الإقبال على شراء الفيتامينات لتعويض نقص التغذية، وقدّرت إحدى المجلات الاقتصادية في سوريا، أن تكلفة طبق السلطة أصبحت أغلى من كيلو دجاج، وأنّ السوريين مهدّدون بالعزوف عن الخضار بعد اللحوم.
لجأ كثيرون حتى في المدن إلى زراعة الخضار على أسطح المنازل وتربية الدواجن في حدائق البيوت.
بعد ارتفاع أسعار التبغ الذي تحدّده الحكومة، عاد مدخنون إلى “دخان اللف” غير المُعبّأ، كملاذ أقل تكلفة.
عاد مزارعون بإيجاد حلول محلية إلى الطبخ على النار والحطب، بسبب نقص الغاز المنزلي. واستطاع بعضهم في السويداء وريف طرطوس توليد الغاز من روث البقر عبر تقنيات هندسية بدائية.
تفادياً لزحمة الطرقات التي تتسبّب بها الحواجز الأمنية المنتشرة، وتفادياً لارتفاع أسعار المواصلات، اتجه السوريون إلى السير على الأقدام واستخدام الدراجات الهوائية.
بسبب انقطاع الاتصالات بين المحافظات، عاد كثيرون إلى أيام الرسائل الورقية التي ترسل مع سائقي الشاحنات.
في المحافظات التي خرجت عن سيطرة الحكومة كلياً أو جزئياً، مثل الرقة وحلب ودير الزور وريف حمص، ظهرت اقتصادات الحرب بشكل أكثر وضوحاً بالاعتماد على اقتصادات غير شرعية في بعض الحالات.
ورصد المركز السوري لبحوث السياسات ظهور اقتصادات العنف في سوريا، تجلّت في العديد من الظواهر، كممارسة القتل أو الإهانة أو الإيذاء للسوري الآخر، وتوسّعت ظواهر الاتجار بالإنسان والسلاح والمخدرات والخطف لقاء فدية.
ظهرت في دير الزور والرقة اقتصادات تعتمد على الاستيلاء على آبار النفط وتكريرها محلياً وبيعها، بعدما توقفت بشكل شبه كامل السلطة المركزية عن دفع الرواتب للموظفين في هاتين المحافظتين، وفقاً لتقرير مركز كارنيغي.
نشرت صحيفة “تشرين” الرسمية تقريراً حمل عنوان “ارتفاع الأسعار يلتهم ثلث الراتب ويدفع إلى التسول والتشليح”.
فيما يمكن وصفه بالاقتصاد الرمادي، ظهرت مهن تعتمد الاحتيال لكسب النقود، مثل مهنة “الدورجي” في حلب، وهو شخص يحجز أدواراً في الطوابير أمام الأفران ومحطات الوقود بهدف بيعها للمضطرين.
3 سيناريوهات
الآن تبدو آفاق الانتعاش الاقتصادي ضعيفة في ضوء اشتداد العقوبات الأمريكية والانهيار المالي في لبنان المجاور.
وتأثر تحويلات السوريين العاملين في الخارج بجائحة كوفيد-19.
وعجز الحليفان روسيا وإيران عن تقديم المساعدات الكافية.
اليوم “ما عندك مصادر القطع الأجنبي. لا النفط والقمح موجود. وكله بندفع عنه عملة صعبة. موارد الحكومة محدودةط، كما قالها لرويترز رجل الأعمال السوري البارز خليل طعمة الذي يتخذ من دمشق قاعدة لأعماله.
سيناريوهات المستقبل
لم يعد أمام النظام سوى ثلاثة سيناريوهات، بعد تدهور قيمة الليرة ومعاناة الاقتصاد السوري.
هذا ما توصلت إليه دراسة ظهرت صيف 2020، نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحت عنوان “الأزمة الاقتصادية في سوريا: أسبابها وتداعياتها واتجاهاتها”.
1 تخفيف جزئي للعقوبات يوقف التدهور
تذهب الدراسة إلى أن مرونة النظام قد تدفع واشنطن إلى تعليق بعض العقوبات، وحصول النظام على بعض المساعدات الاقتصادية الخارجية، ما يعطي هامشاً لإبقاء الأوضاع الاقتصادية على ما هي عليه، وتحول دون مزيد من التدهور والانهيار، من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى حل سياسي شامل.
يتوق هذا الاحتمال على “رغبة” صانعي القرار الدولي في الاحتفاظ بنظام الطاغية لبعض الوقت خدمة لمصالح بعينها.
2 مزيد من الصمود وربط الأحزمة
السيناريو الثاني هو “سياسات الصمود”، مثل “تخفيض تكاليف الإنتاج لتشجيع النمو في القطاع الزراعي وزيادة المحاصيل الزراعية.
وإعادة تشغيل خطوط الإنتاج في عدد من الصناعات الحيوية للسوق المحلية.
وإلغاء تصدير العديد من المواد، وتقليص استيراد مواد لمصلحة توطينها محلياً”.
يبدو هذا السيناريو صعب التنفيذ بسبب العجز المالي، ولأن أهم الموارد الاقتصادية خارجة عن سيطرة النظام.
على سبيل المثال تخضع مواد الطاقة والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية كالقمح، لسيطرة “الإدارة الذاتية” المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى العجز المالي وعدم قدرة روسيا وإيران على دعم النظام.
3 استمرار الضغوط انتظاراً للانفجار الكبير
يتمثل السيناريو الثالث بـ”سياسة التعنت”، أي استمرار النظام في أسلوبه القمعي ونهجه الأمني في التعامل مع الملفات السياسية والاقتصادية، وتعليق فشله على قانون قيصر والعقوبات الدولية.
وفي ظل هذا السيناريو تتوقع الدراسة الدخول في نطاق “التضخم الجامح”، بحيث يرتفع معدل التضخم بأكثر من 50% على أساس شهري.
وقتها قد تخرج كل الأمور عن السيطرة، لأن الفقر والحرمان هما أكبر صانعي الثورات في التاريخ.
.. لكن ليس بعد الجوع ذنب
لا أحد تقريباً داخل سوريا يجرؤ على توبيخ بشار الأسد علناً، إلا أن الكثيرين يشعرون بأن رئيس النظام تخلى عنهم، حسب صحيفة The Financial Times البريطانية.
بعض الرموز السورية المعارضة حذّرت من أن استمرار تدهور الأوضاع الراهنة دون القيام بتغيير سياسي حقيقي سيؤدي إلى حتماً اندلاع “ثورة جياع”، لأن مَن يستطيعون تحريك عجلة الاقتصاد السوري منفيون خارج البلاد بسبب دموية نظام الأسد وامتلاكه أداة وحيدة في جعبته، وهي المطرقة التي يضرب بها كل حراك سياسي يهدف إلى حل سياسي يخرج سوريا من مأزقها التاريخي، كما ينقل التقرير.
تدهور تردي الوضع المعيشي ونقص الغذاء، لا يقل خطورة عما يعانيه السوريون تحت الحرب والتفجيرات.
وحلفاء الأسد شركاء في الميدان العسكري فقط، لكن هؤلاء الحلفاء، الذين هم أنفسهم يصارعون في ظل العقوبات الغربية، من غير المرجح أن ينقذوه مالياً.
وقد أثار المسؤولون في روسيا وإيران تساؤلات حول كيف سيدفع لهم السيد الأسد مقابل دعمهم في كل ما سبق.
انتهت سوريا حالياً إلى أنقاض محترقة يجلس على قمتها بشار الأسد.
وتحكم أجزاء منها ميليشيات مدعومة من روسيا وإيران.
وبعيداً عن “الأسد أو لا أحد”، فإن لدى الشعب السوري الآن زعيم حزب الله حسن نصر الله وآية الله علي خامنئي والروسي فلاديمير بوتين، وهم “أمراء الحرب المتشابكون الذين يعتمدون على العنف اليومي للحفاظ على نفوذهم”، كما ورد في تقرير Foreign Policy.
حلفاء النظام في إيران وروسيا لن يُمولوا إعادة الإعمار.
بدلاً من ذلك يتطلعون إلى الاتحاد الأوروبي وآخرين لدفع فاتورة تدمير البنية التحتية للبلاد.
والغرب لن يفتح خزائنه، ولن يسقط العقوبات دون إحراز تقدم نحو الانتقال السياسي الذي أحرق نظامُ الأسد البلاد لتجنبه.
إذاً، المزيد من الضحايا والخراب حتى إشعار آخر.
والمزيد من التجويع الذي سوف يدفع الجميع ثمنه: المواطن السوري الذي يعاني كل أنواع جرائم النظام.. لكن ليس بعد التجويع ذنب.
والوسطاء الفاسدون الذين سيخسرون كل شيء إذا كنست ثورة الجياع في طريقها الأخضر واليابس.
أما النظام فهو الخاسر في كل سيناريوهات المستقبل وهو يفقد السيطرة كل يوم على مفاصل المناطق التي يتحكم فيها رجاله.
وهو يشاهد دوّامة التحالفات الجديدة في الشرق الأوسط تسلب منه أحبابه إلى أحضان أخرى. فالأمر في النهاية هو لعبة المصالح وقواعدها المعروفة التي لا ترحم صديقاً قديماً، أو عزيز قوم ذلّ.
الأزمة الاقتصادية في سوريا 2021 غير مسبوقة، وتُنذر بهدم ما تبقى من أركان النظام.
*المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست |