صعدة برس - وكالات - كان قصف روسيا للمدن الأوكرانية بما فيها العاصمة كييف بمثابة نقطة فاصلة، تنذر بحدوث تغييرات كبيرة في مسار الحرب.
ولا يبدو أن الأهداف التي تعرضت للقصف في المدن الأوكرانية كانت تحمل أي أهميةٍ عسكرية مباشرة. ومن الواضح أن قرار استهداف كييف والمراكز الحضرية الأخرى كان سياسياً بالدرجة الأولى، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ولشهور، أكّدت وسائل الإعلام الحكومية الروسية أن بلادهم لا تقصف سوى الأهداف العسكرية داخل أوكرانيا، متجاهلين بذلك المعاناة التي سببها الهجوم الروسي لملايين المدنيين.
لكن التلفزيون الحكومي قام بتغطية تلك المعاناة يوم الإثنين، 10 أكتوبر/تشرين الأول، وتباهى بها أيضاً. واستعرض التلفزيون الحكومي أعمدة الدخان والأشلاء في وسط كييف، إلى جانب لقطات لأرفف المتاجر الفارغة، والتوقعات بأشهر مقبلة من درجات الحرارة المتجمدة هناك، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وقال الرئيس الروسي: “تم تنفيذ الضربة المكثفة بأسلحة جوية وبحرية وبرية بعيدة المدى وعالية الدقة على منشآت الطاقة والقيادة العسكرية والاتصالات في أوكرانيا”.
يأتي هذا التحول الحاد في التغطية الإعلامية كمؤشر على تصاعد الضغوط المحلية نتيجة جهود الحرب الروسية المتعثرة. إذ تصاعدت الضغوط المحلية بدرجةٍ دفعت الرئيس فلاديمير بوتين للاقتناع بضرورة تقديم استعراض قوةٍ وحشي لجمهوره في أرض الوطن، ولأوكرانيا، والغرب على حدٍّ سواء، (في تصرف تتجاهل وسائل الإعلام الغربية أنه يشبه ما تفعله إسرائيل في حروبها على الفلسطينيين، حينما ترد على المقاومة بضرب أهداف مدنية أو تدمر أبراجاً سكنية).
وتعرض الجيش الروسي لانتقادات متزايدة من أنصار الحرب لأنه لا يتصرف بالعدوانية الكافية في هجومه على روسيا. وترددت أصداء هذه النغمة في كل مكان بعد هجوم يوم السبت، الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، على الجسر الذي يربط بين روسيا والقرم.
قصف روسيا للمدن الأوكرانية يهدف إلى إرضاء المتشددين
ويبدو أن بوتين رد على تلك الانتقادات جزئياً بالتصعيد المدمر لجهود الحرب في يوم الإثنين. لينجح الرئيس الروسي بصورةٍ مؤقتة في تهدئة سخط المتشددين الغاضبين من الإخفاقات العسكرية الروسية المذلة على أرض المعركة.
وقال عباس غالياموف، المحلل السياسي الروسي وكاتب خطابات بوتين السابق، عن هجمات الإثنين: “تعتبر هذه الهجمات مهمةً من المنظور السياسي المحلي أولاً وقبل كل شيء. إذ كان بوتين بحاجةٍ لأن يبرهن للطبقة الحاكمة على أنه لا يزال قادراً، وأن الجيش لا يزال مفيداً”.
لكن تصعيد بوتين يُعتبر رهاناً منه على أن النخب الروسية- والرأي العام- سينظرون للهجمات باعتبارها علامة قوة، وليست محاولةً يائسة لإيذاء المدنيين الأوكرانيين أكثر في الحرب التي يبدو أن روسيا تخسرها عسكرياً.
وأردف غالياموف: “كان يُفترض بهذا الرد أن يدل على القوة، لكنه أظهر افتقاراً للقوة في الواقع. ولم يعد بوسع الجيش فعل شيء آخر”.
وها هم يشيدون بأداء الجيش الروسي
بينما خرج بعض أشد منتقدي الهجوم على أوكرانيا من صقور روسيا ليعلنوا أن الجيش بدأ يؤدي دوره أخيراً بعد الهجمات الأخيرة. حيث قال الزعيم الشيشاني رمضان قديروف في منشورٍ على تليغرام إنه “سعيدٌ بجهود الحرب بنسبة 100%” اليوم، بعد أن انتقد “انعدام كفاءة” قيادة الجيش مؤخراً.
فيما أوضح غريغ يودين، أستاذ الفلسفة السياسية في مدرسة موسكو للعلوم الاقتصادية والاجتماعية، أن المتشددين في روسيا يضغطون لتطبيق هذه الاستراتيجية منذ وقتٍ طويل. وقال عن وجهة نظر اليمين الروسي المتشدد: “وكأننا يجب أن نخيفهم حتى يرضخوا لنا. ولتحقيق ذلك، يجب أن نكون شديدي العنف”.
وأردف يودين أن الهجوم على جسر القرم يعني أن الكرملين “لم يكن أمامه خيار سوى الاستسلام للضغط” وتصعيد الهجمات ضد أوكرانيا.
ووصف بوتين الهجمات بأنها جاءت رداً على “الأعمال الإرهابية” الأوكرانية، وصوّرها بأنها هجمات تحدث لمرة واحدة بغرض ردع الهجمات الأوكرانية على الأراضي الروسية مستقبلاً.
كما أشار إلى أن الهجمات جاءت بمبادرة من الجيش، في محاولةٍ واضحة لنفي التأكيدات بأنه يخطط لجهود الحرب في عزلة.
ولكن بوتين يبدو أنه لا يريد التصعيد مع الغرب
بينما تجاهل بوتين الحديث عن نقطةٍ بارزة في خطابه. إذ لم يذكر الغرب بصفته المسؤول الرئيسي عن تفجير جسر القرم يوم السبت، أو غيرها من الهجمات الأوكرانية المزعومة. مما يمثل خروجاً عن خطاب الكرملين المألوف الذي يُصور واشنطن ولندن باعتبارهما المحرك الرئيسي للمقاومة الأوكرانية.
ومن المحتمل أن هذا التحول يُشير إلى رغبة الزعيم الروسي في السيطرة على التصعيد في الحرب، والتأكد من أنه لن يثير نزاعاً مباشراً مع حلف الناتو.
وربما ستؤدي الهجمات القاتلة التي تبدو عشوائيةً إلى إرضاء دموية الصقور الروس، لكنها تحمل بعض المخاطر بالنسبة لبوتين. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب من بينها أن الهجمات تتضارب مع مزاعم الكرملين بأن روسيا لا تستهدف المدنيين الأوكرانيين، وتنفذ “عملية عسكرية خاصة” فقط.
كما ستفرض الهجمات ضغوطاً على بوتين للتصعيد أكثر في حال تنفيذ هجمات أوكرانية أخرى أو إحراز أوكرانيا لانتصارات على الجبهة، مما قد يزيد الخلاف في أوساط النخبة الروسية الحاكمة حول حجم القوة المستخدمة داخل أوكرانيا.
الهجوم استهدف كييف التي يعتبرها الروس أول عاصمة لهم
ولا عجب أن الشخصيات المؤيدة للكرملين واجهت أثناء احتفالها صعوبةً في تفسير الهجوم الوحشي على المدن، التي تُعتبر محوريةً في التراث الثقافي الروسي، على حد تعبير بوتين نفسه.
حيث كتب سيرغي ماركوف، المعلق المؤيد للكرملين الذي يظهر على القنوات الحكومية باستمرار، في منشورٍ على تليغرام: “نشعر بالمرارة لرؤية الهجمات الصاروخية على واحدةٍ من أجمل مدن العالم، كييفنا (كييف الخاصة بنا). لكن مسؤولية الهجمات على كييف تقع على عاتق المحتلين ومن يعاونهم. ونعني هنا بايدن وزيلينسكي شخصياً”.
ويصف الروس أحياناً كييف بأنها أم المدن الروسية، حيث يشترك البَلَدَان في الجذور التي تمتد إلى الدولة السلافية الشرقية “كييف روس” التي كانت كييف عاصمتها وكانت موسكو منطقة هامشية فيها؛ وهذا هو السبب الذي جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشير إلى البلدين على أنهما “شعبٌ واحد”.
ولم يطالب الكثيرون داخل روسيا بضبط النفس في يوم الإثنين. بينما أعرب بعض الصقور عن أسفهم لأن بوتين لم يضغط بما يكفي. إذ قال دميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي الحالي، على تليغرام إن السبيل الوحيد لحماية روسيا سيأتي عن طريق “تفكيك حكومة أوكرانيا بالكامل”.
بوتين يتحرك نحو النووي
وتُشير بعض العلامات إلى أن بوتين يستعد لتصعيدٍ أكبر في الحرب. حيث عيّن في يوم السبت الجنرال سيرغي سوروفكين، المعروف بوحشيته، لقيادة جهود الحرب.
وقال فلاديمير باستوخوف، العالم السياسي والمحامي الروسي، إن تصعيد بوتين “يتعارض مع حدسه الخاص” ويحُد بشدة من خياراته السياسية للخروج من الزاوية التي حوصر بها.
وأوضح باستوخوف في مقابلةٍ عبر الهاتف: “تهدف جميع تحركات بوتين اليوم إلى الخروج به من الزاوية، التي لا يمكن الخروج منها سوى باستخدام النووي. ويعني هذا أن ما حدث للتو يزيد المخاطر بالنسبة له جداً”.
هل تؤدي الهجمات إلى خضوع الأوكرانيين؟
وترمي الهجمات في الواقع إلى بث الرعب في قلوب الأوكرانيين قيادةً وشعباً، أملاً في أن تشعر كييف بنهاية المطاف أنها مضطرةٌ للتفاوض بينما لا تزال روسيا تحتل نحو سُدس أراضي أوكرانيا.
ورغم كل الفوضى التي أحدثتها الهجمات، يظل السؤال المطروح هو ما إذا كان الاعتداء على المدن الأوكرانية سيستمر أم لا.
إذ ليس من الواضح ما إن كان في مقدور روسيا الحفاظ على الضربات الصاروخية المكثفة لفترةٍ مطوّلة، نظراً لكم الذخيرة التي استخدمتها في الحرب حتى الآن، وحجم الإدانة الدولية التي تثيرها مثل هذه الهجمات.
وترى التقييمات الغربية أن الهجمات الصاروخية الروسية لن تغير شيئاً في موازين القوى والقتال على الأرض. وحتى لو أثارت الهجمات الخوف في قلوب الأوكرانيين، لكنها لن تؤثر على رغبتهم في المقاومة على المدى القريب في أقل تقدير.
وتكسب أوكرانيا الأراضي على الطريق إلى خيرسون جنوباً في الوقت الراهن، وعلى الطريق إلى دونباس شمالاً أيضاً. ويُدرك الكرملين أن وضعه العسكري الحالي يُعتبر ضعيفاً، ولهذا جاءت هجمات الإثنين لتخدم غرضاً آخر وهو تهدئة القوميين المتشددين.
وفي الوقت ذاته تحاول موسكو تقريب بيلاروسيا إلى الحرب أكثر، بعد الإعلان عن نشر قوة مهام عسكرية مشتركة من البلدين. لكن الجيش البيلاروسي يعتبر صغيراً بقوامٍ لا يتجاوز الـ11.700 مقاتل، بالإضافة إلى قوات خاصة تضم 6.150 فرداً (غالبيتهم من الميليشيات المختصة بقمع المعارضة الداخلية).
وربما يعني هذا أن أحداث الإثنين المروعة لن يكون لها تأثيرٌ على المدى البعيد بقدر ما يبدو حالياً. لكن المشكلة تكمن في أن آلية صنع بوتين للقرار تزداد شراسةً بالتزامن مع خسارة القوات الروسية للأراضي.
هل تحمي الدفاعات الغربية مدن أوكرانيا من صواريخ بوتين؟
تُدرك موسكو أنها بحاجةٍ للتصعيد، لهذا حاولت تجنيد السجناء وفرض التجنيد الإجباري. وها هي تلجأ الآن إلى موجة قصف للمراكز الحضرية الكثيفة، وربما تكرر فعلتها مستقبلاً.
دفع قصف روسيا للمدن الأوكرانية، الغرب للإعلان عن تقديم مزيد من المساعدات لأوكرانيا، وخاصة فيما يتعلق بالأنظمة المضادة للصواريخ والطائرات.
وجددت تركيا دعوتها لوقف إطلاق نار، واقترحت أن تستضيف اجتماعاً بين روسيا والدول الغربية الأربع الكبرى الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
ولا يعلم هل يعني قرار الغرب تزويد أوكرانيا بمزيد من السلاح، أنه يشيح النظر عن المساعي لوقف إطلاق النار، وقرر الرهان على الأوكرانيين لهزيمة بوتين، أم أن قصف روسيا للمدن الأوكرانية سوف يذكره بقسوة الحرب.
يؤشر نجاح أوكرانيا في إسقاط ما يقرب من نصف الصواريخ الروسية التي أطلقت في الهجمات الأخيرة، وتجربة صواريخ باتريوت، في حرب الخليج مع صواريخ العراق إلى أن حصول كييف على دفاعات غربية متقدمة مضادة للصواريخ، قد يقلل من آثار الدمار الذي سوف تحدثه الصواريخ الروسية، ولكنها لن توقفها.
منظومة NASAMS الأمريكية
كما أن روسيا قد تكون قد بدأت تعاني من نفاد مخزونها من الصواريخ الحديثة، كما تقول التقارير الغربية، ولكن لدى روسيا مخزون ضخم من الصواريخ القديمة، وهي قد لا تكون فعالة ضد الأهداف عالية القيمة المحصنة أو المحمية جيداً، ولكن يمكن استخدامها لاستهداف المناطق المدنية، خاصة أن أوكرانيا لن تستطيع توفير حماية لكل مناطقها السكنية ولا سيما أنها بلد شاسع المساحة (ثاني أكبر بلد من حيث المساحة في أوروبا).
وسيعني ذلك في الأغلب أن الهجمات الصاروخية الروسية، سوف تلحق ضرراً بالحياة المدنية في أوكرانيا، ولكنها لن تدمر قوتها العسكرية، وبالتالي قد تستطيع كييف مواصلة الجهد الحربي وبثمن ثقيل على المدنيين.
وقد ترد أوكرانيا بقصف أهداف داخلية روسية، وهو الأمر الذي يخاطر بتصعيد كبير في الحرب، ويذكر بحرب المدن الوحشية التي حدثت بين العراق وإيران خلال حرب الخليج الأولى بين عامي 1980 و1988، والتي أدت إلى مقتل الآلاف بين الجانبين وقيل إنها أدت لهروب ربع سكان مدينة طهران.
بدأت حرب المدن بين العراق وإيران في أبريل/نيسان 1984، واستمرت بشكل متقطع لأربع سنوات. تعرضت خلالها نحو 30 مدينة إيرانية وعراقية للاستهداف بالصواريخ.
المشكلة أنه حتى لو زودت الدول الغربية أوكرانيا بمزيد من الأنظمة المتطورة المضادة للصواريخ، ونجحت في توفير قدر كبير من الحماية للمدن الأوكرانية من صواريخ روسيا، وتمكنت كما تريد من هزيمة جيشها على الأرض، فإن هذا سوف يزيد من المخاطر ولن يقللها، خاصة إذا لجأت كييف لضرب العمق الروسي رداً على الهجمات على مدنها.
فهذا السيناريو لن يؤدي إلى لشيء واحد، تزايد خطر حشر روسيا في زاوية الخيار النووي، الذي ستكون أوكرانيا هي من يدفع ثمنه.
* المصدر : صحيفة The Guardian البريطانية. ـ ترجمة : عربي بوست
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع |