صعدة برس-متابعات - عاشت تونس خلال الساعات الأخيرة حالة من الرعب والفوضى عادت بالناس إلى الساعات العصيبة التي تلت هروب الرئيس السابق حين نشطت الفضائيات العامة والخاصة في بث صرخات مواطنين اقتحم لصوص وهاربون من السجون منازلهم وافتكوا ممتلكاتهم واختلطت الإشاعة بالحقيقة في نقل أخبار الحرائق والمواجهات التي طالت كل المدن والقرى حتى ارتفعت أصوات الناس: أعيدوا لنا الأمن ولا حاجة لنا بالثورة.
نفس الشعار يتكرر اليوم على ألسنة عشرات الناس الذين شهدوا بأعينهم مقار المحاكم والبلديات والأمن تحرق وتتلف الوثائق العامة والخاصة.. بعض التجار وأصحاب المخابز والصيدليات أغلقوا محلاتهم على مضض وفضلوا الخسارة على أن يمر الشباب العابث فيشعل فيها الحريق.
نداءات كثيرة وجهت إلى وزارتي الداخلية والدفاع حتى تتحرك القوات النظامية لوقف هذا العبث، لكن الاستجابة محدودة وبطيئة وغير شاملة..
بعض الناس يتحسر على الزمن القديم، وبعضهم يوجه نداء إلى ساسة اليوم: أعيدوا لنا الأمن وخذوا ثورتكم!
فأي خفايا لما يجري؟ ومن المستهدف؟ ولماذا الآن؟
هناك معطيات كثيرة تتقاطع وتتعارض لكنها تلتقي في أن دوائر داخلية وخارجية تريد أن توقف هذه الثورة في منتصف الطريق، وتقول إنها قد عجزت وأننا لا نحتاجها ولْتعد من حيث جاءت هي والديمقراطية والحريات وكل الشعارات التي لا تؤكل خبزا..
السلفية: الولاء لأجندة "القاعدة"
ونبدأ تفكيك الصورة من تصريحات الرجل الأول في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الذي توقعنا بالأمس أن تكون كلماته الإشارة السرية لبدء المواجهات بين المجموعات السلفية والحكومة التي تديرها حركة النهضة ذات الخلفية الإسلامية. ولم يكن توقعنا افتراضا مجردا وإنما مسنودا إلى معطيات وإشارات سياسية وأمنية.
فالظواهري دعا صراحة إلى الانقلاب على النهضة، وهذا يعني منطقيا أن الحركة - التي لا تحمل من الإسلام إلا الاسم وتعارض تطبيق الشريعة كما قال عنها - تعطل مشاريع التيارات السلفية بالبلاد وتعيق استعداداتها لأن تجعل تونس قاعدة خلفية للتنظيم الدولي بعدما طُرد من الجزائر إلى الصحراء وحوصر بالشرق واليمن.
ونشير هنا إلى تقرير استخباري سربته دوائر أمنية إلى صحيفة "الصريح" اليومية التونسية أكد أن السلطات الأمنية حصلت على معلومات في غاية الخطورة تجزم بأن عناصر سلفية محسوبة على "القاعدة" تخطط لتنفيذ عمليات إرهابية في تونس وخارجها.
وقالت الصحيفة "إن أحد أجهزة الاستخبارات التونسية "حصل على صور وتسجيلات فيديو توثق اجتماعات سرية لعناصر محسوبة على تنظيم "القاعدة"، وهي بصدد إعطاء دروس في كيفية تنفيذ عمليات"جهادية".
ونضيف هنا أن وزارة الداخلية التي يرأسها علي لعريض، القيادي البارز في النهضة، تتولى تتبع أنفاس هذه المجموعات وسبق أن اعتقلت مجموعة سلفية جهادية أولى في مدينة بئر علي بن خليفة (جنوب وسط)، وأصدرت تونس منذ ايام قليلة أحكاما مشددة في حق مجموعة جهادية تسربت من الجزائر واغتالت عسكريين تونسيين.
ويعمل جهاديو تونس على تجنيد الشباب المتدين وإرساله لـ"الجهاد في سوريا" كما كشفت عن ذلك اعترافات بثها التلفزيون السوري، وتدخل في سياق أشمل قررت عبره القاعدة إرسال "جهاديي" دول الثورات للمقاتلة ضد نظام الأسد.
ولا شك أن نبرة التحدي والإحساس بالقوة لدى التيار السلفي واستهزاءه بالحكومة "الإسلامية" الضعيفة والمربكة تبدت في ما يطلق عليه التونسيون بـ"غزوة القيروان" حيث تجمع آلاف السلفيين حاملين رايات سوداء في محيط جامع القيروان.
وأطلق المجتمعون على أنفسهم حركة "أنصار الشريعة"، وهي التسمية نفسها التي يطلقها تنظيم 'القاعدة' على فرعه في اليمن في تأكيد من سلفيي تونس على ولائهم للتنظيم الدولي.
وقال مراقبون إن تلك رسالة من هذه المجموعات على أن ولاءها يتجاوز ما هو قطري إلى الأممي الأشمل وأنها تنخرط آليا في المعركة بين "القاعدة" وخصومها بمن فيهم الأنظمة المحلية العربية وبالذات أنظمة الثورات، وهي الخاصرة الرخوة أمنيا.
النهضة.. ضعف الإرادة يجرّئ الخصوم
لا أحد يبخس "النهضة" حقها في كونها تسلمت قيادة الحكومة بفعل انتخابات حرة ونزيهة وأن جزءا من التونسيين اختاروها بحرية وتوسموا فيها القدرة على البناء اعتمادا على الفاتورة الباهظة التي قدمتها في صراعها مع بورقيبة ثم بن علي.
لكن الشرعية الانتخابية لا تعطي صكا على بياض ولا تعني النجاح آليا ولا تعفي من النقد، وهذا ما بدأ التونسيون يثيرونه بحدة سواء في الإعلام التقليدي أو في شبكات التواصل الاجتماعي.
فقد وقفت حكومة النهضة مربكة وعاجزة في مواجهة موجة الإضرابات العشوائية والاعتصامات التي دفعت عشرات الشركات الأجنبية إلى إغلاق مؤسساتها والمغادرة والتسبب بذلك في زيادة عدد العاطلين عن العمل الذين يقارب عددهم الآن 800 ألف شخص.
وتكتفي حكومة الجبالي باتهام دوائر مبهمة بالوقوف وراء تلك التحركات، لكن التونسيين، بمن في ذلك أنصارها، يطالبونها بأن تقدم للرأي العام الأشخاص أو الأحزاب المورطة وتولى عرضهم على العدالة، وظلت النهضة خلال الأشهر الأخيرة تتحدث عن "مؤامرة" للإطاحة بحكومتها دون توضيح أو تصريح الشيء الذي أفقد خطابها المصداقية.
ويتزامن هذا مع موقفها البارد والمتلكئ في الرد على التهديدات والاعتداءات السلفية ضد المؤسسات وضد الحريات الشخصية لفئات كثيرة خاصة المبدعين والفنانين والجامعيين ما جعل معارضين يتهمونها بأنها توظف السلفيين في تصفية الحساب مع خصومها.
وفي سياق متصل، ظلت الحكومة مترددة في قضية محاسبة رموز الفساد، وهو مطلب شعبي واسع، وتم اتهامها بتبييض وجوه من النظام السابق وإعادة الاستفادة من خبراتها وأموالها وعلاقاتها خاصة رجال الأعمال، فضلا عن كونها أجلت بلا مبرر المصادقة على تكوين المؤسسات اللازمة التي تتولى الإشراف على المحاسبة في القضاء أو المحاماة أو الإعلام.
وحين اتخذت خطوة "تصعيدية" في مكافحة الفساد، انفردت بالقرار ولم تشرّك فيه ابناء القطاعات مثلما جرى مع جمعية القضاة التي دخلت في إضراب لمدة ثلاثة ايام (12 – 13 – 14 يونيو) احتجاجا على هذه الخطوة.
ويعاب على حكومة النهضة أنها اهتمت بطمأنة الدوائر الخارجية وصار وزراؤها يتنقلون بين العواصم دون اهتمام كبير بالناس الذي انتخبوهم وأوصلوهم إلى كراسي التأسيسي أو الحكومة، ولو أنها تداركت نسبيا هذه الخطوة في الفترة الأخيرة من خلال عرض برنامجها التكميلي في مختلف المحافظات.
المعارضة: الفلول ولا النهضة
الذين كانوا في عهد بن علي معارضة لم تكن لهم خبرات بالمعارضة سوى كونها فضح النظام وسياساته وتتبع أخطائه، واستمر هذا الدور بالرغم من كون البلاد خاضت تجربة ديمقراطية تجعل من المعارضة طرفا مؤثرا في المؤسسات المنتخبة وشريكا في كتابة القوانين ووضع السياسات الكبرى، اي طرفا فاعلا مؤسسا وليس مجرد شكاء بكاء.
غالبية المعارضة نزلت إلى الشارع لتقول إن الذين هم في الحكم الآن ليسوا أهلا ليحكموا وأن لا معنى للديمقراطية وصناديق الاقتراع ما لم نصعد نحن، وهذا ما جعل قيادات وأحزابا كانت معارضة للنظام السابق تضع اليد في اليد مع شخصيات سياسية وإعلامية ورجال أعمال وأمن استفادوا من المنظومة القديمة ويعارضون أي تغيير في الأدوار أو الخضوع لسؤال من أين لك هذا؟
وبهذا وجدت نفسها عن طيب خاطر تضع يدها في يد "الفلول" لتقطع الطريق على أحزاب وصلت عبر صناديق الاقتراع وإنْ كانت مربكة وبلا خبرة ولا أفق، ومن ناحية ثانية كانت بذلك تفرش الطريق أمام التطرف العابر ليجد لنفسه موقعا في مجتمع لا يتحمله.
موجة الإضرابات، والمواجهات التي تستهدف جهاز الأمن، والاعتصامات الفوضوية التي تضر بالاقتصاد الهش تلقى ترحيبا وتبريرا من رموز ديمقراطية ومدنية وحقوقية بارزة، مع أن الحد الأدنى من الواقعية يدفع هؤلاء إلى أن يقولوا كفى فوضى واستهدافا لمكتسبات دولة ليس لها من خيرات ولا استثمار إلا سمعتها.
ومن باب المزايدة والضغط على الأحزاب الشريكة في التحالف الحكومي يطل وجه سياسي بارز له تاريخ نضالي كبير مثل أحمد نجيب الشابي ليبرر إقدام مجموعة من الفنانين على عرض لوحات فيها مس بالمقدسات وتهدف إلى استفزاز المتطرفين في الصف المقابل ليعيثوا في المدن خرابا وحرقا..
وختاما لا بد من الإقرار أن الأحزاب التي وجدت نفسها فجأة في تونس ما بعد 14 يناير 2011 (سواء أكانت حاكمة أم معارضة) تحتاج إلى تقييم أدائها ليس فقط لدخول الانتخابات القادمة بحظوظ أوفر، وإنما وأساسا لتحافظ على استقرار البلد وتوازنه الاجتماعي، وتحفظ حلم بناء دولة ديمقراطية في محيط عربي متصحر، ولا تجعل الناس يحنون إلى زمن الفلول بما يعنيه من فساد واستبداد.
بقلم: مختار الدبابي |