صعدة برس -
اليمن.. فوضى القبيلة وعسر الإدارة!
محمد الرميحي
لولا مؤتمر المانحين الذي عقد الأسبوع الماضي في الرياض للنظر في دعم الاقتصاد اليمني المتهاوي، لما ظهر اليمن من جديد على رادار الشاشة الإعلامية، على الرغم من أهميته الاستراتيجية في الخاصرة الخليجية، إنه الدولة المنسية. يتحدث الإعلام العربي والعالمي عن تطورات الأوضاع في كل من تونس وليبيا ومصر، ويضج بأخبار سوريا، أما اليمن فمتروك لقدره الصعب فقرا وعوزا. دراسة اليمن وربيع العرب لافت للنظر، فهو الدولة الاستثناء، جميع رؤساء الجمهوريات التي استقبلت هبة الربيع العربي، إما هربوا وإما قتلوا وإما في السجن، ومن ينتظر منهم لا يخرج
عن الاحتمالات الثلاثة، إلا اليمن.. إنه الطريق الثالث. خرج الرئيس من السلطة ولم يخرج من البلد، انتهى عهده بالأمر والنهي المباشر، ولم ينته نفوذه غير المباشر، الصورة اليمنية ليست مختلفة هنا فقط، بل وحتى في بدايتها، فقد كانت الاحتجاجات الأولى هي فقط من أجل المطالبة بحريات إعلامية أوسع، كانت المظاهرات الصغيرة تخرج أسبوعيا ولم تكن لتشكل قلقا للنظام، فهو كما يصف نفسه «الديمقراطية الوحيدة في الجزيرة العربية»! وفي اليوم الثاني لهروب زين العابدين بن علي من تونس (15 يناير/ كانون الثاني 2011) تدفق عشرات من الشباب اليمني على ساحة جامعة صنعاء ابتهاجا بانتصار الثورة التونسية، إلا أن 25 يناير وما بعده في القاهرة أضاف حطبا لنار صنعاء.
اليمن اقتصاديا على حافة الهاوية، تعداد شعبه اليوم تقريبا 24 مليونا، نصفهم على الأقل تحت خط الفقر، ومع الزيادة السكانية، فإن المتوقع أن يتضاعف سكان اليمن في غضون 15 عاما. سوءات اليمن ثلاث: القبلية وفشل الإدارة والقات. الأخيرة تستهلك من اليمن ثلاثة من مصادرها الاقتصادية والإنسانية: الوقت والأرض والمياه، وهي ثلاثة مصادر تحاول الدول المانحة أن تحولها إلى مصادر إنتاج. الإدارة الأميركية كثيرا ما نظرت إلى علي عبد الله صالح على أنه «الضامن» لاستقرار اليمن.. ليس بسبب شفافيته، ولكن بسبب قدرته الفائقة على اللعب على المتناقضات اليمنية العديدة وتوظيفها، حتى أصبح من أشهر من ستر «جمهورية الفضائح»، ولم تكن أميركا بعيدة عن تسهيل اللعبة. مثال واحد فقط، عندما اتهمت الولايات المتحدة الشيخ عبد المجيد بن عزيزي الزنداني (الذي خلط السياسة اليمنية بالدعوة) كمشكوك فيه بدعم «القاعدة»، وطالبت بمحاكمته، أخذه صالح تحت جناحه، وأبعد المحاكمة عنه، ليس دون رضا سابق من قبل الولايات المتحدة، التي وجدت أن إطفاء نصف الشر، خير من تأجيجه كله.
ثلاثون عاما لعب صالح على كل الأوراق، بما فيها الديمقراطية، أيقونة المثاليين الغربيين والعرب، ففي انتخابات 2006 الرئاسية سمح صالح بمنافسين له، بل وحصل منافسه فيصل بن شملان على 22 في المائة من الأصوات، لم يحصل - حتى وقتها - في أي جمهورية عربية ذلك، والأكثر لفتا أن فيصل بن شملان ظل طليقا بعد الانتخابات (على عكس ما حدث لأيمن نور في مصر منافس مبارك عام 2005، عندما أعطى درسا قاسيا في عدم احترام المقامات، فأدخل السجن)!
انتهاز الفرص السياسية كانت مدرسة علي عبد الله صالح، بعضها نجح وبعضها فشل، أهم ما فشل فيه انضمامه السياسي لصدام حسين عند احتلال الكويت، كان مندوبه في مجلس الأمن وقتها عبد الله الأشطل، ممثلا للعرب جميعا في المجلس، ولعب دورا سلبيا للغاية مناصرا للاحتلال، تنصل منه علي صالح بعدها، بذريعة أنه كان يتصرف دون تعليمات! مع أنه أرسل نائبه وقتها علي سالم البيض نائب رئيس الجمهورية الجديد، وعبد الكريم الإرياني رئيس الوزراء وقتها، إلى بغداد لمقابلة صدام حسين، وصدرت وثيقة للمحادثات، نشرت في الكويت حوت تفاصيل اللقاء، حيث يقول الإرياني لصدام (مازحا مزحا أسود) وليس بعيدا عن صوت سيده: نريد أن تلتصق حدود اليمن مع حدود العراق! خسر اليمن بسبب ذلك الموقف لفترة فرص عمل لأبنائه في دول الخليج، ونال جفاء مغموسا بشكوك عدم الوفاء، نتيجة مغامرة علي صالح غير الذكية.
الآن نجح في مكان آخر، فقد انتهز خوف العالم المرضي بعد سبتمبر (أيلول) 2001 من «القاعدة» والإرهاب، خاصة أميركا ودول العالم الصناعي، وبعد إشاعة أن اليمن يمكن أن يكون أفغانستان، فقرر صالح مد فترة الرئاسة من خمس إلى سبع سنوات، تنتهي دورتها الثانية افتراضا عام 2013! وبلع العالم والشعب اليمني الطعم، ثم بعد ذلك قرر أن يعود إلى الخمس (أكثر عدالة) على ألا يكون سقف سنوات الحكم محددا، وأيضا طمعا في التوريث، فالزمان كان غير مناسب، وخدع الذكي في التوقيت!
استخدم علي صالح دخل مبيعات النفط اليمني الشحيحة، في إفساد الخاصة، وتكون حوله دائرة غير منظورة من المستفيدين، كما أشبع بعض أبناء القبائل بالامتيازات التجارية حتى أصبح الطريق ممهدا لظهور (إمام وراثي جديد) في اليمن تحت اسم الجمهورية. القصة الباقية معروفة من حيث التسلسل. عضال التخلف التنموي اليمني لن يبرأ منه اليمن، لأن الدول التي تدخلت في الحراك اليمني، عربية أو دولية، ليس لها خطة إيجابية أو تصور لخروج اليمن من وهدته الاقتصادية، هي في الغالب تريد أن يستمر اليمن في شيء من السلام الاجتماعي، وليس التنمية. الحقيقة الموضوعية أنه لا تنمية مع شبكة متنفذة من الهيمنة القبلية، والتخلف الاجتماعي. خيار المانحين ليس صرف الدولارات، بل تحويل المأزق اليمني إلى فرص تنموية، وهذا يحتاج إلى فكر لم يطرح بعد، منه على سبيل المثال النظر إلى القوى الجديدة.
على الرغم من أن صلب الحراك اليمني كان معتمدا على الشباب، لكنهم - كأمثالهم في كل من مصر وتونس - لم يستطيعوا أن يشكلوا قيادة بارزة، أو يضعوا برنامجا تنمويا. سقطت الثمرة اليمنية غير الناضجة، في حالة «لا غالب ولا مغلوب»، الصيغة اللبنانية الأشهر، فتسلم الحكم الحالي توليفة من أحزاب اللقاء المشترك وبقايا نظام صالح.
أما النهج فقد ظل كما هو: إدارة متخلفة، ومحاصصة، وقات، وعطش. المال وحده لن يحل المشكلة اليمنية المعقدة، فاليمن يفتقد نظاما مؤسسيا تقريبا شبه مستحيل ظهوره في البيئة القبلية. ما يقدم لليمن هو تخدير لتأخير الانفجار الكارثي والإنساني، فحتى اللاعبون الإقليميون اعتمدوا في أفكارهم اليمنية على الزعامات ورؤساء القبائل، الذين في الأساس أوصلوا اليمن إلى ما هو عليه.
آخر الكلام:
من يستطيع أن يرصد إعلان الحرب ومحادثات السلام بين الفرق السودانية المختلفة في ربع القرن الماضي، سوف يحصل على جائزة دولية، لأن عدد الاجتماعات، كما هو عدد الصراعات، كمية لا تحصى.. لقد تحول إنجاز السودان إلى مؤتمرات
|