صعدة برس - بات المشهد اليمني في الوقت الراهن، أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، بالنسبة للرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي يخوض غمار تحديات ومواجهات شرسة على أكثر من جبهة، خصوصاً ما يتعلق بـ «القضية الجنوبية» التي أصبحت القضية الأهم والأبرز والأخطر على سطح المشهد السياسي المليء بالمفارقات والتناقضات والتحديات.
وتأتي أهمية وخطورة ما بات يعرف بـ «القضية الجنوبية» بالنسبة للرئيس هادي، من كونه أحد قيادات ما عرف خلال عقد الثمانينيات بـ«الزمرة» التي كان يقودها الرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد، والتي أزيحت من حكم الجنوب، على يد جناح «الطغمة» الذي كان يقوده البيض ورئيس أول حكومة في دولة الوحدة حيدر أبو بكر العطاس، بعد المواجهات الدامية التي دارت بين جناحي «الزمرة» و «الطغمة» في كانون الثاني (يناير) 1986، والتي أفضت إلى نزوح ناصر وهادي وكل القيادات العسكرية والسياسية التابعة لـ «الزمرة» إلى شمال اليمن، وسيطرة «الطغمة» التي مثلها الحزب الاشتراكي على الحكم في الجنوب.
وعلى رغم انقضاء نحو 26 عاماً على مواجهات كانون الثاني 1986، و22 عاماً على قيام الوحدة اليمنية، إلا أن صراع «الزمرة» و «الطغمة» عاد مؤخراً إلى واجهة المشهد السياسي اليمني عموماً والقضية الجنوبية على وجه الخصوص، بعد عودة اثنين من القيادات الجنوبية المعارضة في الخارج إلى مدينة عدن، وهما محمد علي أحمد، وأحمد عبدالله الحسني، الذين ينتميان مناطقياً إلى محافظة أبين مسقط رأس الرئيس هادي، والمحسوبين أيضاً على «الزمرة»، حتى بعد انضمام الحسني إلى صف علي سالم البيض، وتبنيه خيار الانفصال الذي يدعو إليه البيض.
ويرى العديد من السياسيين الجنوبيين إن الحسني الذي شارك مع الرئيس اليمني الحالي عبد ربه منصور هادي، والقيادات العسكرية المنضوية تحت جناح «الزمرة»، في حرب صيف عام 1994، التي خاضها الرئيس السابق علي صالح في مواجهة نائبه علي سالم البيض، إثر إعلان الأخير انفصال الجنوب عن الشمال، أراد من خلال التحاقه بمعسكر الداعين إلى حق تقرير المصير للجنوب وانفصاله عن الشمال، ركوب موجة الحراك الجنوبي بتخطيط مسبق من ناصر وهادي، حتى لا يخسر قادة «الزمرة» شعبيتهم في أوساط أبناء الجنوب، وحتى لا تبقى محافظة أبين بعيدة عن لعبة الحراك الجنوبي.
ويؤكد سياسيون جنوبيون تحدثوا إلى صحيفة “الحياة” اللندنية، أن الخلاف بين «الزمرة» و «الطغمة» أزلي ولا يمكن تجاوزه على مر الأيام والسنين، ويستحيل نسيانه أيضاً بعودة الحسني الذي عينه الرئيس السابق علي صالح قائداً لقوات البحرية اليمنية، بعد دوره الكبير في حرب 1994، ومن ثم تعيينه سفيراً لليمن في سورية، التي تم التمديد له فيها لعامين إضافيين، وقبل انتهاء فترة عمله كسفير انتقل أواخر شهر نيسان (أبريل) 2005 إلى العاصمة البريطانية لندن وطلب اللجوء السياسي فيها والانضمام إلى تكتل المعارضين لنظام الحكم في اليمن.
ويقولون إن هذا الخلاف تحول إلى ثأر بين الجانبين، ليس فقط بسبب ما حدث من مواجهات دامية في 1986، ولكن أيضاً بسبب ما تلا ذلك من اشتراطات للبيض والحزب الاشتراكي اليمني، على رئيس الشطر الشمالي سابقاً علي صالح عند التوقيع على اتفاقية الوحدة، قضت بإخراج علي ناصر محمد من صنعاء وإيقاف الدعم الذي كان يقدم للقوات العسكرية التابعة للزمرة، التي نزحت من الجنوب إلى الشمال في العام 1986، إضافة إلى مشاركة هذه القوات في حرب صيف عام 1994 ضد القيادات الاشتراكية التي أعلنت الانفصال.
ودلل هؤلاء السياسيين على عمق الخلاف بين جناحي «الزمرة» و «الطغمة» في جنوب اليمن، بالانتقادات التي وجهها الحزب الاشتراكي اليمني مؤخراً للرئيس هادي، إثر صدور عدد من القرارات الرئاسية التي قضت بتعيين قيادات عسكرية وسياسية في مناصب عليا، والتي قال أنها «لا تعبر عن شراكة حقيقية، وتفسد الحياة السياسية والتوافق الوطني»، وفي ذات الوقت لا تهيئ مناخات مناسبة لحوار وطني حقيقي، وأوضحوا أن الحزب الاشتراكي اليمني يعتبر هذه التعيينات تكريساً للخلاف القديم بين «الزمرة» و «الطغمة»، لأن أغلب الشخصيات التي يعينها هادي من أبناء المحافظات الجنوبية، تنتمي لمحافظة أبين وجناح «الزمرة».
اعادة ترتيب الأوضاع
ويعتقدون إن «الزمرة» بما تمتلكه قياداتها من قدرات وخبرات سياسية عالية، وما يتوافر لها اليوم من إمكانات كبيرة بحكم وجودها حالياً في حكم البلاد الذي تعمل على تعزيزه في شكل كبير، تعمل أيضاً على إعادة ترتيب أوضاعها من خلال القيادات العائدة من الخارج مثل محمد علي أحمد وأحمد الحسني، وفرض سيطرتها القوية على قوى الحراك الجنوبي بشقيه الداعي لاستمرار الوحدة بالنظام الفيديرالي والمتبني خيار الانفصال في الوقت ذاته، حتى يكونوا في صدارة المتواجدين على قمة أي مشروع قادم، بما في ذلك الدولة التي يسعى أبناء الجنوب لاستقلالها عن الشمال، وهو آخر الخيارات بالنسبة لهم في حال فشل مشروع الدولة اليمنية الحالية.
غير أن مصادر سياسية مقربة من الرئيس هادي، نفت لـ «الحياة» استدعاء الخلافات القديمة، كما نفت وجود أي نزعة في قمة السلطة لتعزيز تواجد وقوة أي من الأطراف الجنوبية واستبعاد أخرى، سواء من العملية السياسية الجارية حالياً في اليمن أو التي يجري التحضير لها خلال الشهور القليلة المقبلة، وقالت المصادر التي طلبت عدم كشف هويتها، أن اليمن تمر اليوم بمرحلة دقيقة وخطيرة، ولا تحتمل المزيد من الصراعات والانقسامات، أكان ذلك على مستوى اليمن ككل، أو على مستوى القضية الجنوبية، وأكدت المصادر أن رئيس الجمهورية يبذل جهوداً كبيرة في سبيل انتشال اليمن مما هي فيه، ومعالجة مشاكله الشائكة وفي مقدمها القضية الجنوبية.
وأوضحت المصادر أن هذه القضية بحاجة إلى معالجات حقيقية تذيب أولاً الخلافات القائمة بين كل الجنوبيين وفصائل الحراك والمكونات السياسية المختلفة، وإهالة التراب على مخلفات وتراكمات العقود الماضية، من خلال الاتجاه نحو التصالح والتسامح بين مختلف القوى والتيارات، والانخراط في حوار مفتوح يشارك فيه جميع الأطراف، تمهيداً لحل القضية الجنوبية حلاً شاملاً يحقق المطالب العادلة لأبناء الجنوب ويزيح عنهم الظلم ويحقق مبدأ العدالة الاجتماعية ليس فقط لأبناء الجنوب اليمني، ولكن لجميع أبناء اليمن جنوبه وشماله وشرقه وغربه، وهذا الأمر يمثل أهم الأولويات التي ستعرض على مؤتمر الحوار الوطني الشامل المقرر عقده في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
بيد أن الجهود التي تبذل حالياً من قبل القياديين الجنوبيين العائدين إلى عدن، محمد علي أحمد وأحمد الحسني، للم شمل فصائل الحراك الجنوبي، لم تحقق أي نتائج إيجابية على الأقل حتى الوقت الراهن، وقبلها كان هناك العديد من المحاولات التي لم يكتب لها النجاح، للأسباب السالفة الذكر، وأسباب أخرى عدة، بعضها يعود إلى عدم رغبة نسبة كبيرة من سكان المحافظات الجنوبية في العودة بالبلاد إلى زمن التشطير الذي ساد حتى حلول الثاني والعشرين من أيار (مايو) عام 1990 الذي شهد إعلان الوحدة الاندماجية بين شمال اليمن وجنوبه، ولا يبدو في الأفق ما يبشر بوفاق قريب بين الفصائل الجنوبية، بحسب العديد من التوقعات.
صراعات قديمة
وإلى جانب الصراعات القديمة بين فرقاء الحزب الاشتراكي التي يعتقد أنها تستدعى بقوة اليوم، وتناقض رغبات أبناء الجنوب بين راغب في الانفصال ورافض له، والتي تشكل جميعها التحدي الأكبر للرئيس اليمني، يعيد أبناء محافظة حضرموت (شرق اليمن) طرح حلمهم القديم بدولة حضرموت المستقلة من جديد، ليضعوا أمام هادي تحد آخر يتوجب عليه تجاوزه، ويرون أن مطالب أبناء حضرموت تستند إلى حق شرعي وقانوني، ويقول عدد من السياسيين الذين ينتمون إلى محافظة حضرموت ويؤيدون الانفصال، في أحاديث لـ «الحياة» إنهم لن «يقبلوا بدولة جديدة في الجنوب ما لم تكن حضرموت مرتكز هوية هذه الدولة وعاصمتها».
وأكد سياسيو حضرموت، أهمية التوافق الجنوبي على مطالب أبناء حضرموت، وبإشراف إقليمي ودولي يضمن هذا التوافق، بخاصة ما يتعلق بإعادة تشكيل النظام السياسي للدولة الجنوبية المرتقبة، والذي يجب أن يتخذ شكل النظام الفيديرالي بين إقليمين أو ثلاثة أقاليم يتم الاتفاق في شأنها في حوار جنوبي عام، ويبررون مطالباتهم بالتوافق المسبق على الهوية الحضرمية للدولة المستقلة والنظام الفيديرالي بإشراف إقليمي ودولي، بأنهم يريدون تحصين أنفسهم حتى لا يقعوا في شرك الخديعة والمكر اللذين تعرضوا لهما في عام 1967 عندما قال لهم نظام الحكم في الجنوب آنذاك انسوا هذه المطالب، ومن ثم تعرضوا للكثير من الاضطهاد والتنكيل لسنوات طويلة بسببها.
وما يزيد الأمور تعقيداً في المحافظات الجنوبية، إلى جانب صراعات وخلافات النخب السياسية، وجود اعتقاد سائد في أوساط الكثير من المواطنين، إن العديد من القيادات السياسية في الداخل والخارج، سواء تلك التي لا تزال مع خيار استمرار الوحدة، أو التي تتبنى الدعوة لانفصال الجنوب عن الشمال، والتي تتصدر المشهد اليوم أصبحت غير صالحة لقيادة الجنوب وتمثيل أبنائه، ليس فقط بسبب ما ارتكبته من حماقات وممارسات جلبت للجنوب وأبنائه الكثير والكثير من الكوارث التي حلت به على مدى عقود من الزمن، ولكن أيضاً بسبب ما يثار حول بعض هذه القيادات من شبهات الارتباط بالجمهورية الإيرانية التي تتهمها اليمن بالتدخل في الشأن اليمني وتقدم التمويل لبعض فصائل الحراك الجنوبي وحركة الحوثيين في محافظة صعدة (شمال اليمن).
إن ما يحدث في جنوب اليمن منذ عدة أشهر، من تصعيد كبير وخطير للنزعة الانفصالية لدى بعض فصائل الحراك الجنوبي، بات مثار العديد من التساؤلات التي تبحث عن إجابات منطقية تظهر حقيقة الوضع في الجنوب بعيداً عن الاتهامات المتبادلة بين مختلف الأطراف، وتتركز هذه التساؤلات حول أسباب هذا التصعيد في الوقت الذي أصبح فيه اليمن ككيان موحد تحت حكم الرئيس عبد ربه منصور هادي، وهو أحد أبناء الجنوب، إلى جانب وجود الشخصية الجنوبية المعروفة محمد سالم باسندوة على رأس حكومة الوفاق الوطني، إضافة إلى تولي العديد من الشخصيات الجنوبية الكثير من الحقائب الوزارية السيادية والخدمية، وعلى رأسها وزارات الدفاع والتخطيط والاتصالات.
ويتساءل الكثير من الناس حول الأهداف المستترة خلف هذا التصعيد، ومن هي الأطراف المحلية أو الخارجية التي تقف خلفه، وأوجه الاستفادة المرتجاة من كل ما يحدث في اليمن عموماً والجنوب بشكل خاص، في مثل هذا التوقيت الذي باتت فيه الأوضاع في اليمن تتجه وإن بخطوات متثاقلة نحو حلحلة مشاكل وملفات الماضي وإصلاح أخطائه، وترى بعض المصادر السياسية اليمنية، إن كل ذلك يستهدف بدرجة رئيسية الرئيس هادي ونظام حكمه، باعتبار إن فشل المشروع الوحدوي يعد فشلاً لرأس النظام.
ولهذا فـ «القضية الجنوبية» تحتم على الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي التعامل معها بحكمة ومهارة عالية، تمكناه من الحفاظ على وحدة الدولة التي أصبح رئيسها، وإخماد الدعوات الانفصالية التي يتبناها نائب الرئيس اليمني السابق علي سالم البيض، واحتواء قوى الحراك الجنوبي التي تتبنى خيار الانفصال أو «فك الارتباط» بين شمال اليمن وجنوبه، وفي ذات الوقت تلبية مطالب أبناء الجنوب الذين لا يزالون يتمسكون بالوحدة، مع تغيير صيغتها الحالية إلى صيغة جديدة قائمة على الفيديرالية.
وتعتقد المصادر السياسية، إن الرئيس هادي الذي قبل مواجهة التحديات الراهنة من خلال قيادته لليمن في أخطر مراحله التاريخية على الإطلاق، لن يسمح بفشل المشروع الوحدوي وهو على رأس نظام الحكم، ولن يقبل بأن يسجل التاريخ الحديث لليمن عودة هذا البلد إلى زمن التشطير، خلال فترة توليه الرئاسة بعد 22 عاماً على قيام الوحدة، غير أن ذلك لا يعني بحسب ذات المصادر استمرار الحال الراهن، وعدم البحث عن صيغة جديدة لشكل وطبيعة اليمن الموحد القابل للاستمرار.
وتؤكد مختلف الأطراف السياسية اليمنية، أن الوحدة الاندماجية بصيغتها الحالية لم تعد أمراً مقبولاً، كما لم تعد تمتلك أي من المقومات التي تحصنها وتجعلها قادرة على امتصاص الصدمات، بعد كل ما شهده اليمن من أحداث وتطورات خلال السنوات الأخيرة الماضية، وبالتالي أصبح البحث عن صيغة أخرى لشكل وطبيعة وتقسيم الدولة اليمنية الجديدة أمراً في غاية الأهمية، وترى العديد من الأطراف أن الشكل الفيديرالي، يعد الأكثر ملاءمة لليمن وقبولاً من قبل المواطنين.
ومع ذلك توجد الكثير من التحفظات تجاه النظام الفيديرالي، بخاصة بالصيغة التي يطرحها حزب رابطة أبناء اليمن «رأي» بقيادة رئيسه عبد الرحمن الجفري، وقيادات جنوبية أخرى من معارضة الخارج وفي مقدمها رئيس أول حكومة لدولة الوحدة المهندس حيدر أبو بكر العطاس، وهي الفيديرالية بين شطري الشمال والجنوب، على أن يكون ذلك خاضعاً للتجربة والتقييم لفترة خمس سنوات، يجري بعدها استفتاء عام لأبناء الجنوب حول استمرار الاتحاد الفيديرالي أو الانفصال، وهو ما يراه اليمنيون مقدمة للانفصال الحتمي، بعكس ما يطرح في مشاريع أخرى تقترح إعادة تقسيم اليمن إلى عدة أقاليم يتداخل فيها الشمال والجنوب، وتكون معايير هذا التداخل جغرافية وسكانية وخدمية وموارد طبيعية.
وإلى أن ينعقد مؤتمر الحوار الوطني المرتقب، الذي يعول عليه اليمنيون لفك شفرات الملفات الشائكة التي تكاد تعصف باليمن، ومن ضمنها ملف القضية الجنوبية، يبقى التحدي قائماً والرهان معقوداً على حكمة وقدرة الرئيس هادي لتهدئة الأوضاع في جنوب البلاد، والتفرغ لمواجهة خطر الإرهاب الذي يصنعه تنظيم القاعدة، فهل ينجح الرئيس؟ ذلك ما ستجيب عنه الأسابيع والشهور القليلة المقبلة. |