- إنها نماذج من قصص المتسولين، يظهر فيها كبار السن من الرجال والنساء إلى جانب الصغار وهم أشبه ما يكونون بمحتالين يتعمدون اصطياد فرائسهم بوسائل وأساليب بلغت الغاية في الكذب والغش والتزوير والخداع.

الإثنين, 24-نوفمبر-2008
صعدة برس - عبدالله السالمي -

أجد نفسي محاطاً بتفاصيل قصص كثيرة أبطالها متسولون أذكياء، أو ربما نصابون محترفون !! , فالشحاتة تجاوزت حالة الطلب بإلحاح- تلك التي يعطي فيها المرء ما يعطي وهو مكره ومغصوب على أمره- إلى مهنية وحرفية عالية ينتهجها متسولون (أو نصابون) أتقنوا فنون التنكر والتمثيل والتزوير والخداع بحيث لا يدعون للمتصدق عليهم أن يساوره أدنى شك في عدم استحقاقهم للصدقة  أو يخطر على باله- وهو يعطي طلباً للأجر والثواب- أنه ليس إلا ضحية لنصابين اتخذوا من التسول طريقاً لاستغلال سذاجته وعفويته وبساطته.


لقد كنت مع كل حادثة تصادفني أتساءل ساخراً عما إذا كان هناك ما يمنع من تطور الشحاتين وتقدمهم وتفننهم في أساليب الشحاتة, بل وذهابهم إلى ابتكار المزيد والجديد من آليات وطرق التسول الإبداعية!


وربما أقول بيني وبين نفسي ساخراً كذلك: إذا كانت تلك مسالكهم في البحث عن الرزق فهل من الصحيح أن يؤخذ عليهم إن هم حاولوا تطويرها وتحديثها والتفنن فيها بما يتناسب والمرحلة الحرجة من الغلاء وقلة ذات اليد التي تمر بها مهنة الشحاتة بمنعطف خطير قد لا تجدي فيه نفعاً ولا تدرّ ربحاً إن هي التزمت بالوسائل والأساليب التقليدية القديمة؟!


ولأن (كان) لم تزل هي الفعل الماضي الناقص، فإنني الآن أتساءل- ومن غير ما سخرية بالمرة- على أي أساس يمكن التفريق في التسول بين ماهو طلب للصدقة عن استحقاق, وبين ماهو نصب وسرقة وخداع في مسوح العوز والحاجة؟!


ومتى يقول الواحد منا أنه أعطى وتصدق؟ ومتى يضرب كفاً بكف،  ويشعر أنه تعرض للنصب والسرقة؟


ونحو من ينبغي أن تأخذنا الرحمة والشفقة؟ وتجاه من لا ضير إن  خالجنا الامتعاض والاحتقار والازدراء؟.


 أسئلة قد يستبين لنا في محاولة الإجابة عليها الخيط الرفيع بين متسول ألجأته الحاجة إلى مد اليد, وآخر أودت به المذلة إلى التنكر في هيئة الشحاتة لممارسة النصب وأخذ ما ليس له, وبالمثال يتضح المقال, ففيما يلي بعض قصصهم التي قد يكون فيها من بيان الحال ما يغني عن الإجابة على السؤال..



تَسَوَّل وأُخِذَ عليه, وكله بالقرآن !!


قديما قيل إن أحدهم كان يتنقل بين المساجد التي يتكاثر فيها المصلون, وفي مسجد بعد آخر كان يقف منتصباً يستجدي الناس بطريقة تجعل أكثرهم لا يترددون عن التصدق عليه, بينما يعود غيره من المتسولين في الجوامع ذاتها بخفيّ حنين, ليس لأن المصلين كانوا على ثقة بأن أولئك المتسولين أدعياء وليسوا مستحقين للصدقة بخلاف هذا المتسوّل, وإنما لأنه بدا أكثر براعة في التسول، وأسلوبه في الشحاتة هو الأبرز والأبرع بينهم جميعاً فماذا كان يصنع؟


لم يكن المتسول إياه يقف مطأطئ الرأس في هيئة منكسرة ماداً يده، ولسانه يتمتم بصوت لا يكاد يسمع من الحياء: لله يا محسنين.. لا لم يكن هذا سلوكه أبداً, وإنما كان يتخطى الرقاب وصوته يجلجل ببعض آي من كتاب الله عز وجل مردداً: أين الذين قال الله فيهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وهكذا كان يقبل عليه المتصدقون طمعاً في ثواب الله وحتى يَصْدٌق عليهم وصف كتابه الكريم، ويصبحوا من الذين يؤثرون على أنفسهم بإنفاق ما هم في أمس الحاجة إليه.



ومرت الأيام وترديده لهذا النص القرآني يفعل في أي تجمع يحضره فعل السحر, فبدا كما لو كان واعظاً أكثر منه متسولاً, غير أن السحر قد ينقلب على الساحر, فإذا كان هذا المتسول قد وجد في القرآن من الآيات ما امتهن ترديدها- بنية منحرفة خاطئة- للتسول والشحاتة جاعلاً من كتاب الله مطية لنيل غاياته وبلوغ أهدافه، فإن في القرآن ذاته ما يكشف المستور من أهداف من سولت له نفسه الاسترزاق الرخيص بآياته العظام.



فذات يوم والمتسول إياه يصرخ في جمع بما اعتاد عليه: أين الذين قال الله فيهم ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) إذا برجل كان يؤمهم للصلاة يجيبه من القرآن نفسه بقوله : من تسأل عنهم ذهبوا مع الذين قال الله فيهم: (لا يسألون الناس إلحافاً يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) فبهت الذي سأل، ولم تعد تنفع معه هذه الطريقة في التسول... ولكن أي الاثنين ينبغي أن نؤيد أنا وأنتم؟  ولماذا؟



 للمتابعة شروط..


كانت تلك حكاية قديمة أردتها توطئة لمجموعة قصصية لا شك أنني وإياكم عاصرنا- ومازلنا- الكثير من أحداثها ووقائعها, بل وشاهدنا الكثير من محدثيها والواقعين فيها.. وقد أحاول هنا ما أمكنني تذكيركم ببعض ما عايشته من قصص كنت شاهداً عليها ابتداءً بما تختزنه ذاكرة الطفولة وحتى اللحظة بشيء من الترتيب, على أمل أن تذكّرونني بشيء مما وقفتم عليه من حكايات مماثلة, أو قريب منها, فهل ستفعلون؟ إني لآمل ذلك، وإلا فسأضطر آسفاً أن أقول لمن لم ينو منكم مبادلتي القصة بالحكاية والحدث بالواقعة.. «لو سمحت ممنوع قراءة السطور اللاحقة وإياك أن تخالف فالرقيب موجود».


 القصة الأولى: فقراء ابن علوان


أتذكر من ثمانينيات القرن المنصرم، وقد كنت حينها طفلاً أن قريتنا في شرق محافظة صعدة كانت تشهد مرور أسراب ممن كان الناس عندنا يسمونهم ب «فقراء إبن علوان»..


ما زلت أذكر كيف كان أحدهم يمسك ب «مزلاج» باب بيتنا الخشبي القديم، وعلى كتفه فأس، ويده الأخرى تهز شيئاً كأنه لعبة أطفال لها أجراس يصدر عن اختلاطها مع همهماته لحن غرائبي مميز, لقد كنت مشدوهاً أسترق النظر إليه من ثنايا النافذة, وما راعني حينها صوته وحاله بقدر ما راعني لهاث جدتي مسرعة تبعدني عن النافذة، وتحل مكاني وهي تصيح: (فاتحة) (فاتحة) (فاتحة)، ولم تزل ترددها حتى سكت، ثم تناوله (ما شاف الله) حسب قولها لينصرف بعدها، ويتركني مروعاً مندهشاً.


كان هذا من فقراء ابن علوان حسب ما أوضحت لي جدتي بعد حين, وأضافت: إنهم مساكين يسيحون في الأرض بحثاً عن الصدقات ولطالما مروا بقريتنا.. أما عن سر ترديدها لكلمة (فاتحة) فقد قالت لي: إن هؤلاء لمّا يطول بهم الوقوف على مداخل البيوت وتحت النوافذ يستجدون أهلها بطريقتهم تلك يعمدون حين لا يجيبهم أحد إلى ضرب أنفسهم بما في أيديهم من الفؤوس والجنابي والأحجار وأي آلة حادة .. وتؤكد جدتي أنها قد شاهدت أحدهم يفقأ عينه بجنبيته, وآخر يشج رأسه بفأسه, وما إلى ذلك مما قالت أنهم يعذبون به أنفسهم, وعليه فحتى تتم الحيلولة بينهم وبين تعذيب أنفسهم بتلك الوسائل فلا بد من إعطائهم والتصدق عليهم, وأول ما يدل على نيّة التصدق عليهم هو الصراخ عند سماعهم بكلمة (فاتحة.. فاتحة.. فاتحة).


لم أنس أن جدتي قالت لي حينها : إننا إذا تركنا أحد فقراء ابن علوان هؤلاء، ولم نتصدق عليه حتى يعذب نفسه فإننا نكون قد ارتكبنا جرماً كبيراً, ومع ذلك فقد أتى أحدهم ذات يوم وهي غائبة، وفعل ما فعل، ولم يقل له أحد منا (فاتحة) فضرب رأسه بفأس كان في يده، فما كان منا إلا أن ضربنا (دروف) النوافذ على بعضها نحاول إغلاقها بعصبية، ثم أخلدنا إلى الرعب، ولم ندر بعدها ما الذي حصل بالتحديد..


تلك حقيقة عايشتها، وليست حكاية نسج خيوطها خيال الجدات, كان ذلك قبل عقدين أو أكثر بقليل, لقد تجاوزهم الزمن, ولكن فظاعة ما كانوا عليه من طريقة في التسول لم تفارقني بعد.. فأية سذاجة في الناس تلك التي كان يستغلها الخبثاء؟ وأي فقراء كان هؤلاء بحق السماء؟!


 


 القصة الثانية: شاب.. وباسم أمه !!


أمام مدخل سوق القات (المركزي) في مدينة صعدة ركن صاحبي سيارته (الأجرة) طالباً مني المكوث فيها ريثما يعود, وما هي إلا لحظات، وإذا بشاب في هيئة مقبولة لم يتجاوز العشرين عاماً يقبل نحوي ماداً يده وهو يقول ما مفاده أن أمه ترقد بمستشفى السلام جراء  مرض خطير,وقد أنفق على علاجها كل ما يملك، وأن هذه هي المرة الأولى التي يمد فيها يده بالسؤال بعد أن أعيته الحيلة, وكل ما يرجوه أن يجمع لها بعض تكاليف العلاج, وإذا كان كاذباً فعسى الله أن يخزيه ويلعنه ويكتب له العذاب (كل جمعة فضيلة)!! حسب قوله..


وفي غمرة استماعي لحديثه، وإشفاقي عليه من دعائه على نفسه بالويل والثبور إذا كان مخادعاً وليس مستحقاً للصدقة.. إذا بصاحبي وقد عاد من السوق يأخذه بثوبه من ظهره، ويدفعه إلى الوراء بقوة وهو يكيل عليه السباب والشتائم, فما كان مني إلا أن صحت في صاحبي غاضباً أقول له: لا يجوز لك أن تنهر مسكيناً بهذه الطريقة, وأضفت: لست مجبراً على إعطائه فهو لم يرغمك على الصدقة، وكان يكفي أن تعتذر منه بلطف وتدعو له بالرزق..


كنت أعاتب صاحبي، وقد آلمتني طريقته تلك، وشعرت نحوه بالاحتقار, ومع أني كنت محتداً عليه إلا أنه قابلني بالضحك، وهو يقسم لي أن هذا المتسول نصّاب تعوّد على الكذب والخداع فلقد شاهده يقول هذا الكلام أكثر من مرة, وزاد صاحبي قائلاً: إن أمّ هذا المتسول ليست مريضة فهو يعرف منزله وأسرته، وكلهم على ما يرام، ولكنها طريقة تعوّد عليها في النصب والخداع حيث لمس فائدتها وجدواها, ولا شيء غير ذلك.


لم آخذ حينها كلام صاحبي على محمل الحقيقة، فلم يزل في نفسي شيء منه حتى جاء يوم كنت فيه قاصداً السفر من صعدة إلى صنعاء.. وهناك في الفرزة حيث ركبت (البيجو) ولمّا يكتمل عدد الركاب بعد, إذا بالمتسول إياه يقبل نحوي مردداً الكلام ذاته وبنفس الطريقة، كآلة تسجيل لا تحيد عن تكرار ما حُفظ فيها من كلام بوضوح وإتقان..


أعترف أنني حينها صرفت وجهي عنه, ولكنني لم أنهره وإن كان في نفسي منه شيء أسفاً على صاحبي الذي كذبّته.


لقد ظللت أتساءل عن أي الطريقتين أصح في التعامل مع المتسول إياه.. وكم عسى يبلغ تعداد أمثاله وعن أي توصيف يصدق عليهم ياترى؟!.. إن هذه التساؤلات لا تعنيني لوحدي ، فهي لي ولكم أجمعين.


 


القصة الثالثة: عجوز (الحصبة) وفتاة (الجامعة)!!


على مقربة من جولة الجامعة الجديدة في صنعاء وقفت منتظراً الباص المتوجه إلى شارع هائل.. كانت الساعة الواحدة ظهراً وزحام طلاب وطالبات الجامعة حال انصرافهم يجعل من فرصة الحصول على مقعد شاغر في أي باص أمراً صعب المنال.. وقفت على الرصيف في غمرة الزحام على أمل أن يحين دوري, وبالقرب مني كانت تقف فتاة تصف لامرأة عجوز طاعنة في السن سألتها عن اتجاه الباصات التي تذهب إلى الحصبة..


أشارت الفتاة إلى الاتجاه الآخر من الشارع وقالت للعجوز: يمكنك أن تركبي من هناك, بدا لي أن العجوز قد فهمت إلى أين تذهب ولم يكن لها من هم إلا هذا, غير أنها عاودت تسأل الفتاة قائلة: لكن يا بنتي ذلحين ما معي حق الطريق، ضاعت مني الزلط .. سلفيني حق الباص الله ينجحك ..»  فما كان من الفتاة إلا أن أعطتها مائة  ريال, وقبل أن تفارقها العجوز وقف بجانبها باص فاستقلته الفتاة مع زميلات لها وغادرت إلى حال سبيلها.


حدث ذلك أمام ناظري, وكنت حنقاً لأن فرصتي في الركوب لما تحن بعد, عاودت الالتفات إلى اتجاه الشارع حيث تأتي الباصات، وزحام الطلاب والطالبات يزداد كثافة, فكرت أن أكون في مقدمة الجموع لتكون فرصتي في الركوب أكبر, ولما ذهبت بضع خطوات وجدت العجوز إياها بشحمها ولحمها تكرر مع فتاة أخرى نفس ما قالته للأولى.


إنها لم تذهب  إلى الاتجاه الآخر من الشارع الذي يؤدي إلى الحصبة حسب ما تقول إنها تريد، ويبدو أنها لا تقصد ما تقول, وإنما هي حيلة رأت أنها تنطلي على الطالبات فنوت أن تكررها مع العشرات منهن..!!


عدت أدراجي قابعاً على الرصيف في انتظار فرصتي  وطرافة الموقف قد خففت عني بعض الحنق, ظللت أفكر في تلك العجوز محتاراً في توصيف ماهي عليه من حال, وفي ذهني سؤال مرير....


ما الذي ألجأها  وهي في هذه المرحلة من انكسار العمر إلى سلوك هذا الطريق المخادع؟؟!!


 


القصة الرابعة : شحات.. ولاااا أروع!!


ذات جمعة في أحد مساجد العاصمة وقف أحدهم بعد انتهاء الصلاة وهو في أفضل ما يكون عليه المرء من هيئة ولباس..


كان هناك الكثير من المتسولين الذين انتصب كل منهم يستجدي بطريقته، مذكراً بما حل به من نازلة .. وفي تداخل أصوات المتسولين أولئك وضجيجهم أمكن جميع من في الجامع تمييز صوت الرجل الذي بدا حديثه بذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله (ص) حتى أسكت الجميع بمن فيهم المتسولين.. لقد استمر يخطب فينا بكل ثقة، مذكراً بواجب المسلم تجاه ابن السبيل وغيره من المحتاجين، حتى ظننته- كما غيري من الحاضرين- واعظاً يريد لنا النصح والإرشاد, فبالإضافة إلى حسن مظهره كان له أسلوبه الرائع في الخطابة بما لا يدع مجالاً للشك في وصفه بغير الخطيب أو الداعية..


كان هذا بالتأكيد ما وصفه به الجميع, غير أنه  مفاجئاً  كشف عن غاياته من الحديث بعد تلك المقدمة الوعظية بطلبه للعون والصدقة، بعد أن أقسم أن هذه هي المرة الأولى التي يقف فيها هذا الموقف، وقد تردد عنه كثيراً إذ كان الحياء يحول بينه وبين الإقدام عليه, ولكنه ألجئ إليه أخيراً حيث لا بد مما ليس منه بد, وما باليد حيلة.. حسب قوله..


لقد ساق ما اعتبره مبرراً لطلبه الصدقة وبصوت متهدج بأن فيه التأثر والخجل..  قال إنه قدم إلى صنعاء من قرية نائية  في محافظة ليس ثمة داع لذكرها- بغرض العلاج من مرض السكري, و أنه لما خرج عند الضحى من اليوم نفسه من الفندق الذي يسكن فيه ليتجول قليلاً قبل موعد صلاة الجمعة حدث أن سرق أحدهم من جيبه في الزحام دون أن يشعر كل ما يملك من المال, ولم يتبق معه شيء, وأرانا قداً في كوته زعم أن اللص عن طريقه أتمم سرقته, راجياً من أهل الخير في الجامع مساعدته بما يمكنه من العودة إلى بلاده، لأنه لا صديق له ولا قريب في صنعاء ولا يمكنه التواصل مع أهله حتى يرسلوا له أي شيء.. مختتماً حديثه بما ورد عن النبي (ص) من قوله: (ارحموا عزيز قوم ذل)،  ثم جلس مكانه في الصف الأول متخذاً وضعية القعود والتشهد في الصلاة، ولم يذهب عند الباب كما هو حال المتسولين..


الحق أن هذا الرجل قد أحسن إثارة أغلب من في الجامع واستدرار عطفهم, فلقد وجدت أمامه كومة من الأوراق النقدية وصلت بعضها حدود أكبر فئة في العملة الوطنية, بينما لفت نظري ذلك اليوم أن غيره من المتسولين على كثرتهم- مع أن فيهم المعاق والطاعن في السن والمرأة والطفل- لم يحظوا إلا بشيء قليل من الصدقة, حيث لم يزد نصيب المحظوظ منهم على ثلاث أو أربع قطع معدنية من فئة العشرة ريال (يمني طبعاً) !!


ومرت أسابيع كدت أنسى فيها تلك الحادثة ، ولم تعد تعني لي شيئاً في زحام مثيلاتها التي لا يمكن أن تخطئها عين.. إلى أن جاء يوم دخلت فيه مسجداً آخر لأداء صلاة الظهر, فإذا بالرجل إياه يقف بعد الصلاة بنفس الهيئة الحسنة ومردداً ما عهدته منه من الكلام، (مع مراعاة فارق التوقيت والمناسبة).. لم يكن الجمع بذات الكثرة, وأذكر أنني تمنيت لو أستطيع الوقوف لتكذيبه لولا أن داخلني الخوف من ملامة الحاضرين.. فتراجعت مردداً في نفسي .. (ما أحسن أن ندع الخلق للخالق فلله في خلقه شؤون..) !!


فهل عساني اتخذت الطريقة الصحيحة ؟! ، لست أدري وإن كنت أدري أيّ رجل هذا !!


 


القصة الخامسة : أطفال.. وبراءة موؤدة


في إحدى المرات التي أغادر فيها صنعاء كنت وزميل لي نقصد الخروج بداعي العمل إلى محافظة لا تبعد عنها كثيراً.. وفي موقف السيارات، ونحن نبحث عن التي سيأتي عليها الدور لنستقلها, استوقفنا صبيان- يبدو أنهما أخوان- اجتهدا فجأة التزام الجد والهدوء والرزانة، وقد كانا للحظات قبل أن يلتفتا إلينا في ذروة ما يكون عليه الأطفال المشاكسون من الفوضى والإزعاج.


قال أحدهما متودداً: « الله يرزقكم هاتوا لنا حق الطريق نضوي بيتنا.. « وأضاف الثاني بذات التودد: « كملت علينا الزلط وما عد درينا كيف نرجع..  « وزاد الاثنان إضافات أخرى تناوبا على سردها ليقنعانا بإعطائهما ..


سألناهما عن وجهتهما فذكرا لنا نفس المدينة  التي نقصدها, ولما كان المبلغ الذي يحتاجانه لن يضر كثيراً بميزانيتنا القليلة شعرت أنني وزميلي متفقان على إعطائهما، إلا أنني لما بدأت أدخل يدي إلى جيبي استوقفني زميلي مؤكداً لي أننا نختلف في الوسيلة وأن علي التزام طريقته لأنها الأحوط.



لم يقل لي هذا الكلام علانية، فقد عبر عنه بلغة أخرى, لقد توجه إلى الصبيين طالباً منهما أن يأتيا معنا في نفس السيارة التي سنستقلها، موضحاً أننا سندفع الحساب عنهما للسائق.. بدا  لي أنه لا فرق بين أن ندفع لهما نقود التكاليف إياها، أو أن ندفع عنهما , وظننت أن ما يريداه هو الرجوع إلى بيتهما,وهاهو على مشارف التحقق, فسبقتهما بخطوات قاصداً السيارة.. ولما لم يتبعاني مع زميلي عدت أدراجي وقد أدركت لماذا عليّ أن أفهم أن طريقته هي الأحوط..


لم تكن حكاية الرجوع إلى البيت، وانعدام أجرة الطريق إلا حيلة من الصبيين يلجآن إليها علها تكون أجدى من غيرها في انتزاع شيء من الصدقة, أو ما نظن أنها كذلك.. لقد بدا الامتعاض واضحاً على وجهيهما عندما تأكد لهما جديتنا في اصطحابهما ودفع الحساب عنهما للسائق, وحاولا أن يقنعانا بأن ندفع لهما لأنهما قد يتأخرا قليلاً..


كان زميلي ينظر إليّ ضاحكاً, ربما على سذاجتي, أو لطرافة الموقف، بينما كان أحد الصبيين يبتعد عنا وهو يصرخ في الآخر الذي لحق به سريعاً: ( رح لك منهم هولا ما منهم رزق, تعال نشوف غيرهم)..


ذهبت وصاحبي لحال سبيلنا, وعلى امتداد الطريق في السيارة اتخذ حديثنا بين زحام أصوات الراكبين مسلكاً جنائزياً حزيناً كنا نتباكى على البراءة التي يأبى الموت إلا أن يئدها في قلوب الأطفال واحداً بعد الآخر, كأن لم يكفه اجتثاثها من قلوب الكبار!! فهل سيأتي على الأرض يوم تخلو فيه قلوب ساكنيها من البراءة، وتصبح قاعاً صفصفاً؟! ثم عن أية براءة  نتحدث في هذا الزمن المفعم بالمكر والغش والخداع؟!.


 


 خاتمة : أسئلة.. ولا مجيب!!


تلك نماذج من قصص المتسولين، ظهر فيها كبار السن من الرجال والنساء إلى جانب الصغار وهم أشبه ما يكون بمحتالين يتعمدون اصطياد فرائسهم بوسائل وأساليب بلغت الغاية في الكذب والغش والتزوير والخداع.


لقد بدا لهم أن التنكّر في أكثر من هيئة وشكل وطريقة هو وحده ما يؤمّن لهم الحصول على الصدقة, فلمّا تمرس الكثيرون منهم على المكر استمرؤوه واعتادوا عليه كما لو كان مهنة وجدوا أنفسهم فيها على أعلى مراتب البراعة والخبرة والمهارة, حتى اقتنعوا أن أقصر السبل إلى الصدقة- وفيهم بلا شك من هو أهل لها- ليس إلا النصب ولا شيء سواه !!


أما المفزع في الأمر حقاً فهو أن هذا السبيل قد انفتح ليس على ذوي الاحتياج من الفقراء والمساكين ومن يعانون الإعاقة البدنية والعمرية صغاراً وكباراً فحسب, وإنما على غيرهم ممن لا يشتكون شيئاً سوى أن ذلة نفوسهم وضعف عزائمهم وموات ضمائرهم وراء استكانتهم للعيش عالة على الآخرين.. فهل بقي لهؤلاء من عذر يدرأ عنهم تهمة النصب والاحتيال؟!.


إن فيما مضى من الحكايات ما قد يجعلنا نتساءل فزعين: ترى كم في المتسولين من نصابين وكذبة؟! غير أنه وبقدر تأكيدنا على كثرة الأدعياء- إلى  الحد الذي يجعل من المستحقين غير معروفين، ولا يكاد يصيبهم شيء من الصدقات- فإن السؤال عن الأسباب الكامنة وراء تكاثرهم وطرق مواجهتها هو محور الاهتمام.. فمن يعنيه شأن الإجابة؟؟!! 

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 05-ديسمبر-2024 الساعة: 02:01 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.saadahpress.net/news/news-62.htm