- لا مفر من البؤس.. فالفقر لم يزل شاهراً سيفه, والجوع يسد كل الثغور, ووحده الغلاء يفاقم اشتعال النار في الهشيم.. ومنذ زمن كان قد قال أحدهم صادقاً: "والله ما جاع فقير إلا من تخمة غني" وعن العري من الملبس والمبيت وضروب العوز والحاجة يصدق الحال كذلك!!

الأحد, 30-نوفمبر-2008
صعدة برس - عبدالله السالمي -

لربما استوقف أحدكم مشهد ما في العرض اليومي لمسرحية "فقدان التوازن الاجتماعي"  ولربما- أيضاً- لم تعد تعني لكم فصولها أهمية كبيرة لكثرة ما شهدت الساحات والأماكن عرضها المتكرر ليل نهار..


ومهما يكن من أمر.. فهل يمكن لي أن أذكركم بأحسن وضعية للمشاهدة حيث الأسلوب الأفضل للاستمتاع بمتابعة هذه المسرحية المملة والخروج منها بابتسامة المفجوع من شر البلية وهول المأساة, الضاحك بهستيريا الجنون تحت وطأة تراجيديا الزمن العصيب!!


 


فاصل إعلاني


حسنٌ.. أشعر أنني قد حصلت منكم على الموافقة ولو مكرهين.. والآن أترككم مع الإعلان التالي:


"عزيزي" المشاهد.. عزيزتي المشاهدة.. دون أن تكلفا نفسيكما عناء شراء التلفزيون وجهاز الديجتل الرقمي ولاقط الفضائيات..  ودونما داع للذهاب إلى سينما أغلقت أبوابها وصارت من زمن ملجأ للعناكب.. ومن غيرما حاجة إلى اقتناء شرائط الفيديو والأقراص الكمبيوترية المدمجة والوسائط المتعددة.. الآن وبلا شيء من ذلك كله يمكنكما مشاهدة السيناريو الواقعي لمسرحية "فقدان التوازن الاجتماعي" في نسختها الأصلية وبممثليها الحقيقيين.. بالإضافة إلى العديد من البرامج والأفلام والمسلسلات ونشرات الأخبار.. كل ذلك في الهواء الطلق على تلفزيون الحقيقة حيث أكثر الأماكن تعرياً وانكشافاً إلا من سقف السماء البعيد المتعالي.. ووداعاً لكلمة: حصرياً..


 


شاشات وعروض


يا لسخرية القدر!! في أكثر من بلد- وهذا أحدها- صارت الساحات على اتساعها شاشات عرض عملاقة لأحدث ما يسفر عنه الفقر, وينتجه العوز, وتخرجه الحاجة من دراما سوء العيش تحت وطأة الحرمان والبؤس والشقاء.. والمفارقة الغريبة أن المشاهدة بالمجان, وعلى مدى ساعات العرض التي لا تتوقف, ومن لم يكتو بنار المعاناة فقد يأتيه من أنباء أهوالها ما يجعله قريباً من لفح الهجير..


ليكن البدء من الساحات الأكثر اتساعاً لمختلف المشاهدات واستيعاباً لشتى الصور.. وهكذا شاشات عرض لن تغيب عن المدن التي تشغل سطوحها ارتفاعات خرساء من خرسانة وأسمنت.. وفي واحد من هذه الأماكن ما على أحدكم حيث يتواجد إلا أن يعتلي بناية تطل على متنفس من الأرض يتقاسمه- إلى جانب السيارات- خليط من البشر ما بين قائم وقاعد وماش يحث الخطى صوب أحلام مجهولة.


وإذا تعذر عليه الصعود لأنه لا يملك من بين البنايات على كثرها أي شيء, فليستقر حيثما وجد نفسه في الشارع مع إشراقة الشمس أو عند اشتداد الظهيرة أو أي كان وسط زحام كائنات متدافعة وقودها النار والزيت واللحم والدم أيضاً.. أو ليدع نفسه تشق طريقها متنقلاً هنا وهناك وهنالك ممعناً ببصره وبصيرته في حنايا الأماكن وخبايا الزوايا.. وعندها سيكون قد شاهد في غيرما متعة وتسلي المسرحية التي تلاحقني وإياكم كوابيسها ليس في اليقظة على ضوء النهار فحسب وإنما حال ما ننوي الهروب منها إليها في المنام.. إنها مسرحية الحقيقة المرة التي نعيشها صباح مساء.. "فقدان التوازن الاجتماعي" العنوان الجامع لشتى صنوف المعاناة.. فمنه تصدر وإليه تعود.


 


صور من تراجيديا الشقاء


هناك- حيث تتكاثر الأغلبية- ثمة مختلف الوجوه والهيئات التي تتقاسمها الشوارع والأرصفة.. عمال يحملون أدواتهم بانتظار من يستأجرهم في أعمال مضنية مقابل أجور زهيدة, وآخرون يروحون ويغدون بلا قصد ووجهة أما المتسولون فلا يكاد يخلو منهم مكان.


وفي الجولات عند اتقاد حر الشمس أطفال وشباب وشيوخ يودون لو يتخلصوا من بضائعهم الزهيدة, تجدهم يجرون وراء لقمة العيش متوسلين السائقين والمسوقين الشراء منهم , ومع الإشارة الخضراء تنتهي جولة من المطاردة لتبدأ أخرى..


وفي مواقف السيارات يمتهن البعض العمل غسّالاً ومساحاً يهوي بخرقته المبللة على إحداها راجياً عشرات الريالات من صاحبها الذي قد يبدي أسفه عن عدم الدفع نافياً طلبه منه هذه الخدمة,ومن دون ذلك الكثير والكثير..


إن البحث عن أقل القليل من احتياجات المأكل والمشرب والملبس والسكنى هو ما يدفع باتجاه امتهان أيما عمل.. فليس هناك من خيارات, والمهم الخلاص من البطالة القاتلة كيفما اتفق.. إن العري عار.. والجوع كفر.. والعطش يأس وقنوط.. ولا بدائل لأي منها إلا الرحيل, أما النوم فيمكن تدبر أمره إذ قد يكون في توسد الرصيف ليلاً الملجأ والخيار المتاح ..


هكذا تتبدي الحقيقة.. صوراً ومشاهد غاية في البؤس والعناء, وإذا كان هناك ما هو خاف ومستتر فقد يكون أعظم!!


 


وأخرى من سخرية النقائض


أما على الضفة الأخرى فالوضع جد مختلف.. قلة هم الذين يسرحون ويمرحون في الثراء والنعيم.. هناك وفي أكثر من مكان يتسع المدى للفلل الباذخة بساكنيها الميسورين, وفي الشوارع تمرق أعداد كبيرة من السيارات بأحدث الموديلات ومن مختلف الماركات.. الكبار في السن من المترفين يفضلون الـ "لاندكروزر" "جي إكس آر" أو "في إكس آر" وصغارهم يتنقلون بين الـ "برادو" والـ "كامري" ووحدها "تويوتا" هي الأشهر.. أما الـ"مرسيدس" والـ"لكزس" و"بي إم دبليو" وربما "فورد" و "همر" ومسميات أخرى فتأتي بعدها تباعاً..


ونظرة لشارع يغمره الزحام تكفي للتساؤل عمّا إذا كان شعبنا قد أصبح من ذوي الثراء النفطي أو قد انتقلت اليابان إلينا وصار لأغنيائنا في شركات السيارات فيها من الأسهم أضعاف ما لأصحابها!!


أسئلة حائرة.. وفي محاولة البحث عن إجابات لها ينفتح الأفق على ما لانهاية من الاندهاش واليأس والشعور بالغبن والذل والمرارة.


 


"كومبارس" ولكن.!


لا مفر من البؤس.. فالفقر لم يزل شاهراً سيفه, والجوع يسد كل الثغور, ووحده الغلاء يفاقم اشتعال النار في الهشيم.. ومنذ زمن كان قد قال أحدهم صادقاً: "والله ما جاع فقير إلا من تخمة غني" وعن العري من الملبس والمبيت وضروب العوز والحاجة يصدق الحال كذلك!!


ذات ليلة صيفية في إحدى المدن الساحلية وقفت وصاحبي على نيام يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. سألته ما الذي ألجأهم إلى تقاسم العراء والمدينة تعج بمساكنها الكثيرة؟! وحين أدركت أنهم من العمال الوافدين من المناطق المجاورة وأن الواحد منهم يتقاضى في يومه- في حال ما إذا صادف عملاً- قريباً من الألف ريال.. تساءلت عن أي شيء سيتبقى لأهله ومن يعول بعد نفقات مأكله ومشربه لو استأجر ما ينزل فيه ليلاً؟!


لربما خفف الحر عن هؤلاء عناء ابتغاء النوم متقلبين فوق التراب.. ولكن ماذا عن حال غيرهم في مناطق البرد والصقيع؟! فالحق أن نواميس الحياة لم تستعد استقامتها التي كانت عليها أيام خلوها من البشر.. إذ ما إن وجدوا عليها حتى أخلّوا بسنن العدل فيها وأقاموا بديلاً عنها موازينهم الجائرة الظالمة.


 


لولا تحريف السيناريو


كان ينبغي أن يحتكم المجتمع إلى ثوابت وأسس تمكّن جميع أفراده من التشارك العادل في فرص العيش ومتطلبات البقاء.. معرفياً فيما يخص التعليم والثقافة كاحتياجات عقلية وروحية, وعاطفياً على صعيد المودة والحنان القلبيين الموصلين إلى الإحساس بالرضى والاستقرار ابتداءً بالأبوين فالأسرة ثم المجتمع, وجسدياً بما يشمل متطلبات الغذاء والدواء والملبس والسكنى مما يعني في المحصلة النهائية تساوي الجميع في الوصول إلى مقومات الأمن الحياتي بشكل عام..


وحتى لا يحسب هذا الكلام على التنظير بعقلية مثالية طوباوية فلنقل أن المفترض هو أن يحصل الجميع ولو على الحد الأدنى من فرص العيش الآمن والكريم على كل تلك الصعد المعرفية والعاطفية والجسدية.. ذلك أن اعتبار تفاوت الناس في المواقع والأرزاق مما تقضي به سنة الحياة لا يلغي ضرورة تمكينهم متساوين من الفرص المكتسبة والتي لا تبقي بعد امتلاكها لأحد من عذر إن هو قصر عن الإفادة منها وتكاسل عن السمو بها راضياً بالتقهقر والتخلف والانحطاط..


أن يتشارك الناس بمعايير عادلة وسوية ولو في الحدود الأدنى من كل تلك الأمور لهو ما يشار إليه بالتوازن الاجتماعي, وعكسه فقدان التوازن الاجتماعي الذي يقصر حق امتلاك فرص العيش الآمن والكريم على أناس دون آخرين في المجتمع.


 


على عكس ما أراد المخرج


أصل المشكلة- إذاً- أن تاريخاً طويلاً من اختلال موازين العدل الاجتماعي قد فرض على الحياة نمطاً من العيش يتموضع معه البشر على طرفي نقيض.. فقلة هم الذين يسيطرون على فرص البقاء الأنسب, وكثرة يكاد لا يتوفر لهم منها أقل القليل, وما بينهما مراتب من العيش تصعد حيناً وتهبط آخر.. وإن كان الهبوط هو ما ترتفع بالدلالة عليه مؤشرات الواقع, بما يعني استفحال الفقر والعوز والجوع في أوساط الكثرة الكثيرة واستطالة الترف والغنى والبهرجة لدى القلة القليلة.


إن الحديث عن ضرورة إصلاح نواميس الوجود الحاكمة اليوم بما يعيد للعدل الاجتماعي اتزانه واستقامته لن يتم بمنأى عن تأكيد أهمية تمكين الفئة العظمى من الناس الذين يشكون التهميش والكفاف والحاجة من فرص التشارك العادل في مكونات العيش الأفضل المعرفية منها والخدمية, أي مقومات الأمن والرضى والاستقرار عقليا ونفسياً وجسدياً وعاطفياً..


وبعيداً عن النظرية الاشتراكية وسياسات التأميم وكل ما طرح ويطرح من مشاريع ذات طابع أيديولوجي لها صلة بهذه الأزمة فإن القاعدة التي تقضي بحق الجميع المتساوي في الحصول على الفرص الحياتية المختلفة تقضي في الوقت نفسه بعدم مشروعية تجريم المجتهد إن هو أثرى واسترزق- متدرجاً في مراتب الغنى والنعيم مادياً ومعنوياً- بالانطلاق منها دونما التفاف على حقوق الآخرين واستحواذ بفرص الغير.


أما حين لا يدع القلة للكثرة من فرص العيش الكريم شيئاً إلا واستأثروا به علواً وتجبراً وظلماً وعدواناً فتلك هي الكارثة التي لا تنفي عنهم أيما حق فيما كسبوا باطلاً فحسب، وإنما تستدعي وجوب مساءلتهم أنى لهم ذلك، ومن ثم تجريدهم من كل ما له علاقة بالثراء غير المشروع انتصاراً للمحرومين الذين ضيعت فرصهم في العيش الكريم وحرموا من استغلالها تحت وطأة الظلم والاستعباد والفساد والقهر...

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 05-ديسمبر-2024 الساعة: 02:44 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.saadahpress.net/news/news-75.htm