- إن توظيف الأغنية في مجالات تحسين السلوك وتربية الأخلاق وتعويد الشباب والأطفال على فضائل مثل النظافة والحب والتعاون والعمل والإيثار والنظام والتضحية، من الأهداف الملحة في الوقت الحالي.

الإثنين, 10-نوفمبر-2008
صعدة برس -

يتصور البعض أن الغناء محرم على إطلاقه في الفكر الإسلامي، وأن الموسيقا والأداء اللفظي المصاحب لها ليس لهما مكان في حركة الإبداع الفني عند المسلمين، وقد تضخم هذا التصور في الواقع نتيجة لسببين رئيسيين:

الأول: أن بعضا من صور الغناء الحديثة قد صاحبها كثير من أشكال المجون والإسراف والفواحش.

الثاني: أن بعضا من أصحاب الرؤى المتدينة قد بالغوا في تحريم الغناء، وعمموا الحكم على كل أشكاله دون التفرقة بين الغث والسمين أو الصالح والطالح.

والسؤال: كيف يمكن للفكر الإسلامي أن يستفيد من قدرات الغناء الواسعة في التأثير وتوجيه العواطف وتهذيب بعض النفوس؟ وكيف تتكامل المؤسسات الثقافية في العالم العربي والإسلامي في تقديم أنموذج معتدل للغناء يجمع بين الترفيه الحلال والعاطفة الجياشة والكلمة البناءة ويعبر بواقعية عن حاجات النفس الإنسانية وخصوصية العادات والثقافات الإسلامية؟

الشاعر والإعلامي الكبير جمال الشاعر يأسف بشدة لحدوث هذه الدرجة العالية من الالتباس واللغط حول الغناء وما يمثله من موسيقا وأدوات صوتية، وكلمة ومعان لفظية، ويقول: أتصور أن الدعوة والحس الإسلامي قد فقدا كثيرا من جراء وقوع هذه الخصومة بين الغناء والكلمة الصادقة وأحاسيس الناس ومشاعرهم، ومن المؤسف أن هذه الخصومة، قد صاحبها تكثيف عال من أهل الإسفاف والمجون حتى كاد الغناء يتساوى في نظر الكثيرين مع الفواحش والمحرمات والعري والابتذال، وفي الوقت الذي مضى فيه البعض يحرم الموسيقا ويحرم الغناء على إطلاقه، مضى فيه البعض الآخر يمجد الابتذال ويروج للفواحش ويعلي صوت العري والحرام.
ولا أبالغ إذا قلت إن مسألة الغناء هذه قد جسدت أنموذجا للتأزم الفكري عند قطاع من المسلمين حيث تجاذبتها رؤى شديدة التطرف ورؤى شديدة التفريط ورؤى غربية أخرى شديدة الخبث والتمرد والإبهار.

الكلمة البناءة

ويضع الكاتب جمال الشاعر يده على أس الإبداع الإسلامي في مجال الغناء وهو “الكلمة”.

ويضيف: نحن المسلمين أمة الكلمة والبيان والقراءة وقد أبدع العقل المسلم على مدى التاريخ أشعارا وكلمات غطت كل مناحي الحياة وعبرت عن النفس الإنسانية وحاجات المجتمع المادية والعاطفية.

وأعتقد أن الفكر الإسلامي باعتداله يمكن أن يحل مشكلة الغناء ليس في الذهنية المسلمة فقط بل في العقل الإنساني كله، فالمصلحون في الغرب والشرق يدركون أن الكلمة المغناة وصلت إلى درجة من الابتذال لا تطاق ويدركون أن الثقافة الإنسانية في حاجة ماسة إلى الكلمة الجادة التي تشيع الفرح والفضيلة بين الناس وتعبر عن المشاعر والأحاسيس دون مجون، وتعكس متطلبات المجتمع وثقافته دون تطرف، وتصبح وسيلة للبناء وإشاعة المسؤولية بدلا من الهدم وإشاعة الفوضى.
وبرؤيته الإسلامية والشعرية معا، يوضح جمال الشاعر أن الإسلام يدفع الإنسان دفعا إلى الإبداع في مجال الغناء والكلمة، ولكنه في الوقت نفسه يربيه تربية خاصة غير موجودة في أي ثقافة أخرى غير الثقافة الإسلامية، فالثقافة الإسلامية تغرس في الإنسان الإحساس بخطورة الكلمة ومسؤولية الإنسان عن كل كلمة تخرج من فمه باعتبار أن السمع كله والبصر كله والفؤاد كله مسؤول عنه الإنسان.

والثقافة الإسلامية تجعل اللسان والقلم هما المناط الأكبر للتكليف والمساءلة، ولهذا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذه المعاني في مثل قوله: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت”.

وقوله لمعاذ بن جبل: “وهل يكب الناس في النار على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم؟”.

والثقافة الإسلامية لن تسمح للشاعر الغنائي بأن يتحسس العورات أو يشيع الفاحشة بين الناس أو يثير الغرائز أو يدعو للعصبية أو العنصرية وحتى في حالة الترفيه أو المزاح نجد الإسلام يضع حدا فاصلا بين المزاح الجاد والمزاح الفاحش وبين التسلية الهادفة والتسلية الساقطة، ومن الأحاديث ذات الدلالة الواضحة في هذا المجال قوله صلى الله عليه وسلم: “إني لأمزح ولا أقول إلا حقا” وفي الحديث: “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء” وفي المعنى ذاته قال عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري وغيره: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة”.

إذن، فإشكالات الكلمة محلولة في التصور الإسلامي، وليس هناك حكر على معنى أو إحساس أو فكرة من حيث المبدأ، بل هناك دعوة ملحة إلى الإبداع والتعبير وتجييش المشاعر والأحاسيس والأفكار.

المشاعر الوطنية

ويشير الدكتور حلمي قاعود أستاذ الدراسات اللغوية والشرعية بجامعة الزقازيق إلى اتساع مجالات الغناء التي تحتاجها المجتمعات الإنسانية بشكل عام والإسلامية بشكل أكثر خصوصية.

فالمشاعر الوطنية من أقدم أهداف الغناء في كل المجتمعات، وتاريخ كل الدول والحروب والسياسات والانتصارات والانكسارات صاحبه غناء يجمع المشاعر على حب الوطن ووحدته وسلامة أراضيه، وهنا نذكر أن أهل المدينة استقبلوا رسول الله في بدء الهجرة بالأغنية الشهيرة: “طلع البدر علينا”، ومعانيها ليست فقط معاني دينية للترحيب بصاحب الدعوة بل هي معان سياسية ووطنية للترحيب بمؤسس الدولة وباني الوطن الإسلامي الوليد، وعليه فإن تبني القضايا القومية مثل قضية القدس والوحدة الإسلامية ومناهضة العصبيات المذهبية والقومية، من أرحب مجالات الإبداع الغنائي المطلوب في عالم المسلمين اليوم.

أيضا فإن توظيف الأغنية في مجالات تحسين السلوك وتربية الأخلاق وتعويد الشباب والأطفال على فضائل مثل النظافة والحب والتعاون والعمل والإيثار والنظام والتضحية، من الأهداف الملحة في الوقت الحالي.

كذلك، نضع الغناء في المناسبات الشخصية والاجتماعية السارة في مقدمة الأولويات المطلوبة مثل الغناء في أعياد الميلاد والنجاح والزواج والخطبة وفي الانتصارات الوطنية والأعياد القومية والمناسبات الاجتماعية، والمؤكد أن الإسلام مع الترفيه المباح من حيث المبدأ، وأن الغناء من وسائل هذا الترفيه، وأن الترفيه مرغوب فيه بالفطرة والطبيعة الإنسانية.

أغاني الأطفال

ويجب أن تتنبه المؤسسات التربوية والإعلامية ومسؤولو الكلمة والأغنية في العالم الإسلامي إلى شكل مهم من أشكال الغناء المطلوب وهو أغنية الطفل، والثابت أن النغمات الحانية أو الهدهدة البسيطة للطفل أو الغناء الفطري الذي تردده الأم لوليدها من الأمور المحببة لنفس الطفل، فضلا عما نلاحظه في الوقت الحالي من تعلق الأطفال بالغناء خاصة مع تعدد وسائل الاتصال المسموع والمرئي ووجود مؤسسات عالمية معنية مباشرة بالإنتاج الغنائي للأطفال.

ومن الثابت أن جل هذه المؤسسات الدولية ليست معنية في الأساس بأخلاق الطفل وسلوكه بقدر ما هي مهتمة بالتوزيع والربح المادي والإثارة والعنف وربما ترويج الإيحاءات الجنسية بشكل مبكر.

ولهذا، فإن من واجب المسلمين اليوم أن يقدموا إبداعات إسلامية متميزة في مجال أغنية الطفل تأخذ بيده نحو السلوك القويم وتحقق له الترفيه والتسلية والإشباع النفسي والاجتماعي، وتؤكد خصوصية المسلمين الثقافية والتربوية.

تجنب العيوب الثلاثة

ويعيب الدكتور حلمي قاعود على عملية الإنتاج الغنائي والموسيقا ثلاثة أمور خطرة، الأول الإسراف الشديد في أعمال الحب والجنس وإثارة الغرائز وكأنه ليس في اهتمامات الإنسان وحاجاته سوى الغريزة والاتجار في العري.

الثاني ما يصاحب هذه الأغاني من رقص وشرب واختلاط وعنف مادي ومعنوي، وهذه الأشياء تخرج الغناء من دائرة الترفيه الذي قد يكون مباحا إلى دائرة المحرمات المضرة بالمجتمع والناس.

الثالث، ما تقع فيه معظم الدول والجماعات من خطأ واضح حيث يحاول البعض أن يصور الغناء والرقص والموسيقا باعتبارها “عنوان المجتمع” ومظهرا من مظاهر تقدم الدول والشعوب، وهو تصور ساذج بل مسف، لأن تقدم الشعوب يقاس بآلاف الأمور الأخرى التي قد يأتي الغناء في آخرها. ويؤسفني أن بعض الدول العربية بالفعل تريد التدليس علينا بأن الغناء والرقص يمكن أن يكونا دليلا على نهضة الدولة، وهو عيب أراه قاتلا في عملية التربية الشاملة في دولنا الإسلامية حيث يجب أن يقدر كل شيء في قدره، وتظل المساحة واسعة بين الجد ومظاهره والتسلية ومظاهرها، وفي تصوري أن تجنب هذه العيوب الثلاثة يجب أن يكون نقطة البداية في عملية الإبداع الغنائي المبتغى في العالم الإسلامي.

الإباحة أو الاستحسان

وتوضيحا لوجهة النظر الشرعية في الغناء يقرر الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الشريعة وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بداية أن ديننا الحنيف مع كل وسائل الفن والإبداع التي تخدم الإنسان في دينه ودنياه وتحقق له السعادة في معاشه ومعاده.

وفي الموقف الشرعي من هذا النشاط يمكن القول إن الآراء تباينت فيه بين الإباحة أو الكراهة أو الاستحسان أو التحريم، كما يمكن التأكيد بأن الكراهة والتحريم لا يقعان على الغناء بعينه بل بسبب ما يترتب عليه من مفاسد، لأن الغناء في أصله كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح.


ضوابط شرعية

ويعدد الدكتور رأفت بعض ضوابط الغناء في ضوء الإباحة الشرعية، ومن ذلك:
الأصل في الأمور الحل إلا إذا ثبت التحريم بالنص الشرعي القاطع وهو ما لم يحدث مع الغناء.

ما ورد من إباحات شرعية واضحة للغناء في مناسبات عدة مثل الضرب بالدف في العرس وقدوم الغائب والعقيقة، والفتوى أنه لم يرد فيه تحريم، وعندما تحدث القرآن عن اللهو لم يحرمه بل ذكر أن ما عند الله “خير” من اللهو كما قال الحق في سورة الجمعة: “وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين”.

وفي البخاري في “كتاب النكاح” أن امرأة من الأنصار زفت إلى رجل من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما كان معكن من لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟”.

التأكيد على دور الهدف والغاية من الغناء، فالإسلام مع الإبداع الغنائي عندما يكون الهدف مفيدا، أما عندما يكون الهدف هو اللهو بعينه، أو شد الناس نحو الشر أو صدهم عن الخير فهذا لا يجوز، وهذا الضابط مهم جدا ليس فقط في هذا الموضوع بل في كل موقف يجد فيه المسلم نفسه باحثا عن الحلال والحرام، ومن الآيات ذات الدلالة في هذا قول الحق: “ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين”.

والذي لا جدال فيه يضيف الدكتور رأفت أن ديننا فسيح كما قال الرسول في مناسبة الضرب بالدفوف بين يديه في المدينة، فعندما هم أبو بكر بالزجر، قال عليه السلام: “دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح”، وفسحة الدين وسماحته تستوجبان أن يوجه الغناء لتنشئة الصغار على الفضيلة، وتوجيه المشاعر نحو حب الناس والدين والوطن، وتأكيد وحدة المسلمين في المشاعر والاهتمامات، وتفريغ الأغاني من مظاهر الرقص والفجور أو الشرب والعري.

إن المسلمين اليوم شعوبا ودولا ومؤسسات في أشد الحاجة إلى تسخير كل ملكات الإنسان نحو الخير وتوجيه كل وسائل الثقافة والترفيه إلى بناء المجتمع الإنساني الأكثر سعادة وعملا وحبا وإخلاصا للدين والدنيا.

*نقلا عن صحيفة الخليج











تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 02:04 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.saadahpress.net/news/news-78.htm