عبدالله السالمي -
(العلم والثقافة) أو (العالم والمثقف) ثنائية تشير إلى رصيد معرفي واسع ينطوي عليه الفرد ويصدر عنه ويتمثله، أو يتحسسه في حنايا التاريخ وآفاق الحاضر بمطالعته عبر وسائل الحفظ المتعددة..
وإذا كان التعليم والتثقيف هما التنفيذ العملي لرسالة العلم والثقافة، أو تجليات حضورهما في المجتمع، فإن التأكيد على إيجابية التعليم واستمراريته، وسلامة الثقافة وفاعليتها في تقويم وتعديل الانحراف الذي يطال الفكر والسلوك الإنساني.. هو الأمر الأهم في هذا الموضوع..
المدلول التاريخ لمصطلح العلم والعلماء:
ينبغي هنا أن نستند إلى مرجعية دينية إسلامية تتكئ على التاريخ بقدر كبير لتحليل ما أنتجه من مفاهيم وممارسات، وعليه فإن العلم –أساساً- ارتبط بالشرع بحيث لا يفهم عند إطلاق لفظ العلماء إلا المشتغلين بعلوم الشريعة.. وإذا كانت التسميات في فترة من الفترات قد تعددت كالفقهاء والمتكلمين والمحدثين.. فذلك يعود إلى ظهور التخصصات وتنوعها داخل علوم الشريعة، غير أن العلماء الذين التصقت أسماؤهم وآثارهم بذاكرة الأمة هم أولئك النفر القليل من المجتهدين الذين اقتربوا من واقع الأمة، وأثروا حياتها باجتهادات فكرية وفقهية تلامس قضايا المجتمع ومشاكل أناسه.
ومن هنا فإن العلم يعني فقه القوانين والقيم والمبادئ التي تحكم المجتمع وتنظم العلاقة بين أفراده بما يضمن صحة العلاقة واتصالها مع الخالق سبحانه. والأمر لا يقف عند الفهم فحسب بل يتعداه إلى الدعوة والتبليغ، فسكوت العالم على ضلال الجاهل أمرّ وأدهى من ضلال الجاهل ذاته، لأنه يعطي تسويفاً وتبريراً لهذا الظلال إلى الحد الذي يصيره مع مرور الزمن حقاً وهدى.
والعلم –حسب هذه الوجهة- يغدو قوة روحية وأخلاقية تعنى بإنعاش المجتمع، والسير به في طريق العدل والاستقامة، ولكن الشيء المهم في هذه القوة أنها ليست إجبارية، بمعنى أنها لا تلجأ إلى استخدام أساليب قمعية لإكراه الناس بالتزامها والرضوخ لتعاليمها، ولكنها تعتمد التذكير والإرشاد والتنبيه في المقام الأول، وإذا كان لها من وسائل أخرى فإنها تتجلى في نوع من الترغيب يمثل الجانب الاقتصادي لهذه القوة، بحيث أن الاستجابة لها توفر على الإنسان كثيراً من المشاكل وتدفع به إلى حياة العدل والسلام وراحة البال، فضلاً عن الفوز في العالم الأخروي، وهذا يعني أن المجتمع سيتخلى عن هدر الجهد والوقت والمال في إثارة المشاكل وافتعال الصراع والعبث بالحياة، وسيتجه بمكونات حياته كلها لما من شأنه إثبات إنسانية الإنسان واستحقاقه لخلافة الأرض والفوز بتكريم الخالق وإنعامه.
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن هذه القوة الأخلاقية الروحية لا تغفل الاعتماد على أساليب الترهيب، وهذا لا يناقض حقيقة أنها لا تعتمد الإكراه والقمع في فرض تعاليمها، وذلك لأن هذا الترهيب لا يعدو وجهتين.
أما الأولى: فإنها تعني عكس مدلول الترغيب في التذكير بحجم الخسارة الاقتصادية التي سيتكبدها المجتمع حينما يخالف تلك التعاليم، فيعيش في دوامة من الشرور والآثام، وهذا يعني عبثية الحياة وضياعها عاجلاً، والهلاك والخسران آجلاً.
وأما الوجهة الثانية: فالحديث حولها يطول لأنه يلامس علاقة العلماء بطرف آخر هو (الحاكم) والأخطر من ذلك متابعة ما ينتج عن هذا الثنائي فيما يمكن تسميته بالقانون، ودور كل منهما في صنعه وإقراره ومتابعة تنفيذه، وأين يقع المجتمع بمختلف فئاته في هذا السياق؟!
وما يهمنا تأكيده هنا هو أن دور القوة العلمائية في مجتمع القانون لا يتعدى دعوة الناس وتذكيرهم للالتفاف حول هذا القانون والالتزام به، أما ممارسة العقوبات على مخالفيه فليست من شأنهم، ليس لأن ذلك يناقض منهج اللا إكراه، وإنما لأنه –لو حصل- سيكون تخطياً واضحاً للدور المنوط بهم، وابتعاداً عن وضيفتهم الحقيقية، وهذا من شأنه خلط الأوراق في أساسيات هذه العلاقة، بما يناقض قانون العلاقة ذاتها.. وأكثر من هذا الحديث سيذهب بنا بعيداً عن جوهر هذا المقال
ولعله واضحاً الآن أن قوة العلم التي يتسلح بها العالم تستند إلى معطيات أخلاقية وروحية غايتها الانتصار للجانب المعنوي في الإنسان بإثارة نوازع الخير فيه وإيقاظ ضميره للسمو به نحو عالم القيم والخير والعدل، وذلك بالتخاطب مع عقله وفكره وقلبه وضميره عبر الحوار والجدال بالحسنى..
المثقف: الاسم الجديد أم الذات البديلة:
إذا كانت السطور السابقة توحي بتناول تاريخي يستند إلى معطيات الماضي فإن الحديث هنا سيستمد رؤيته من ثنايا الواقع المعاش، وأول ما يلفت النظر أن لفظ (العالم) قد استبدل بمصطلح آخر هو (المثقف) وليس الأمر مجرد استبدال لفظ بآخر بقدر ما يعني استحضار جهة بديلة تحل محل الأولى وتلغي هيمنتها المتمثلة في القيام بالدور الروحي والتوعوي والأخلاقي، وتقلص تأثيرها في صياغة المفاهيم والرؤى المتداولة لدى المجتمع بحيث تكون هذه الجهة هي صاحبة الدور الفكري والتربوي، حسب منطلقات تجديدية متعددة الأذواق والمشارب.
وبغض النظر عن البحث في تاريخ هذا التوجه وبدايته فإن هذا المصطلح (المثقف) أو هذه الجهة (المثقفون) قد استطاعت في بعض الدول العربية والإسلامية أن تتجاوز دور علماء الشريعة وتأخذ موقعهم في تشكيل بنية المجتمع الروحية والفكرية والأخلاقية، وبالتالي فرضت نفسها بديلاً عنهم في مقابل السلطة السياسية ليتم الحديث عن علاقة المثقف والسلطة بتلك الحيثيات.
أما المجتمع اليمني – والحديث يعنيه أساساً- فإن المثقفين لم يستطيعوا إظهار أنفسهم للعب دور المقابل للسلطة السياسية، وقبل ذلك فشلوا في تأكيد قدرتهم على انتزاع المرجعية الفكرية من فقهاء الشريعة والمعممين، أو حتى تقاسمها، ولعب الدور التربوي والروحي والأخلاقي في المجتمع بشكل يلفت النظر.
وهذا ينطبق على المثقفين كمنظومات أو أفراد، ولعل ذلك –باختصار شديد- يعود إلى:
1- طبيعة المجتمع المحافظة دينياً وقبلياً.
2- تجنب المثقفين التعمق في قيم الدين المرتبطة بحرية الإنسان وكرامته، والتي قد تساهم في تغييبها عناصر في السلطة الدينية ذاتها لأهداف جاهلية، أو لنقل جراء منطلقات عصبوية ضيقة.
3- انتشار الأمية والجهل، وتفشي الحالة الاقتصادية المتردية، والأنشغال بهموم المعيشة.
4- إضافة إلى اقتصار المثقفين على وسائل لا تكاد تبلغ طلاب الجامعات فضلاً عن غيرهم..
وتوضيح هذه الأسباب وغيرها يأخذنا بعيداً عن الفكرة الجوهرية في هذا المقال، لأنه مهما كانت معطيات الواقع تدل على فشل المثقف في لعب الدور المنوط به بجدارة على المستوى الأفقي (المجتمع) والرأسي (في مقابل السلطة) فإن الذي يهمنا هو البحث في مقومات المثقف والثقافة لتأسيس مفهوم شامل يحتوي عالم الشريعة ويعبر عنه كغيره من الجهات التي تحظى بنصيب من العلم والفكر. وهذا يعني أننا نريد للواقع التخلي عن تنازع الدور والمرجعية إلى الانشغال بالدور ذاته بعد استيضاحه والتيقن منه كل جهة في مجال تخصصها.
من هو المثقف؟
يمكن أن نقدم هنا مفهوماً إجرائياً للمثقف يتكئ على واحد من مدلولات اللفظ المستخدمة قديماً، (ففي مختار الصحاح، ص84) (الثقاف: ما تسوى به الرماح، وتثقيفها: تسويتها) لنصل إلى إطلاق لفظ المثقف على الرمح، وذلك لاعتداله الذي لا يقبل الاعوجاج.
ومن هنا فإطلاق لفظ المثقف يشير أساساً إلى طبيعة الدور المنوط بمن أطلق عليه، فالمثقف يضطلع بدور تقويمي يكلل به اطلاعه الواسع وعلمه الغزير وقراءته الشاملة، لأنه بدون هذه الوظيفة ليس أكثر من وعاء للحفظ كغيره من وسائل التسجيل والحفظ المختلفة. وهذا الدور التقويمي المنوط بالمثقف يقابل عمل الثقاف في تسوية الحديد وتعديله ليصبح رمحاً مستقيماً معتدلاً. فالمثقف إذاً هو الذي يسخر طاقاته الإبداعية ومخزونه العلمي لجعل ما يتناوله معتدلاً مستقيماً.
وبعد هذا فإن تجليات هذه الوظيفة تتعدد من مثقف إلى آخر لاختلاف التخصصات، فنجد الناقد الأدبي يعنى بتقويم النص اللغوي وتعديله فنياً وجمالياً، ومن ثم مدلول النص معرفياً وأخلاقياً.
أما الأديب فإنه –وبصورة رمزية- يسعى إلى عملية تقويم وتعديل الواقع بمظاهره المختلفة عبر النص الأدبي.
ويبقى المفكر هو أكثر المثقفين أهمية لأن دوره الثقافي هو القيام بمراجعات تقويمية للرؤى والمفاهيم والأفكار والتصورات التي تشكل المنظومات العقدية للأفراد والمجتمعات كأصول مرجعية وثوابت فكرية ومنطلقات أساسية تحكم سائر تصرفاتهم وتوجهها.
وعظم دور المفكر ينبع من كونه معنياً بمراجعة تلك الأصول والمنطلقات الفكرية وإعادة صياغتها بما يكفل رفعة الأمة وتقدمها وإحلال قيم العدل والخير والسلام فيها..
ومرة أخرى: فإن المثقف هو الذي يصدر عن رصيد معرفي واسع، وقدرة ذهنية متفحصة ليقوم بعملية تقويم وتعديل للرؤى والمفاهيم المتداولة في المجتمع، والمتحكمة في سلوك أفراده وعلاقة بعضهم ببعض.
وعلى هذا الأساس فإننا لا يمكن أن نتحدث عن حضور واضح للمثقف بألوانه المتعددة –كدور ومضمون- في مجتمعنا..
المفهوم الشامل للعلم:
إذا كان مصطلح العلم ظل كثيراً يعني المشتغلين بفقه الشريعة وإلى وقت قريب، سيما في أوساط العامة في المجتمع الديني فإنه –أي العلم- بمفهومه الشامل يشير إلى رصيد معرفي متعدد المشارب والاتجاهات، وحركة استكشاف متجددة لفهم قوانين المجتمع والطبيعة.
وعليه فإن العلم يتطابق مع الثقافة، وصاحبه معني بوظيفة المثقف، وإن كان الأخير –كمصطلح- منذ عقود قريبة أكثر دلالة على المقصود الوظيفي.
إن هذا التوضيح يؤدي بنا إلى اعتبار ما تملكه كل الاتجاهات القومية والحداثية والدينية... من حصيلة معرفية نوعاً من العلم ووجهاً من وجوه الثقافة، وأن رموز هذه الاتجاهات يتحملون جميعاً مسئولية القيام بالدور الوظيفي للمثقف والعالم، ويبقى نصيب كل فريق من الإسهام في رسالة التقويم والتعديل مرهون بصدق مقدماته المعرفية وارتباطها بما ينفع الناس.
إن تعدد المنطلقات المعرفية والمرجعيات الفكرية واختلافها من مثقف إلى آخر لا يلغي إمكانية اصطفاف الجميع في خندق واحد لإشاعة قيم العدل والحرية والمساواة، والاحتكام لمنهج الحوار والديمقراطية واللا إكراه كأصول مشتركة يلتقي عليها الجميع.. وتبقى المديات واسعة أمام كل اتجاه ليؤكد جديته في التزام العدل وأداء وظيفة التقويم والتعديل.
وحتى أكون واضحاً، فإن المفكر الإسلامي كالآخر الحداثي مثلاً يصدر عن ثقافة واسعة ويؤدي دوراً ثقافياً معروفاً، وليس من الصحيح في شيء حصر الثقافة في نمط معرفي معين، سواء كان امتداده التاريخي طويلاً أم قصيراً، وسواء كان دوره الوظيفي يطال مساحة واسعة من المجتمع أو ينحصر في دائرة ضيقة.. فكيف إذا كان هذا النمط قريب عهد بالوجود ولمّا يلقى مضمونه المعرفي ودوره الوظيفي – في المجتمع- كثير ترحاب بعد. فهو إذ يحتكر الدور الوظيفي انطلاقا من اعتقاده بصواب وأحقية المضمون الذي يصدر عنه وبطلان ما سواه، فقد تحوب كثيراً وتحجر واسعاً!! أليس كذلك؟!