من نحن  |  الاتصال بنا
آخر الأخبار

 - الباحث نادر سراج

الإثنين, 23-فبراير-2009
بيروت - محمد الحجيري -

لا يفتأ الأكاديمي والباحث الألسني نادر سراج ينقلنا، في أبحاثه التي لا تخلو من قبسات شفوية آثرة تشير الى عوالم اللغة المتشابكة والمتداخلة مع حيوات الناس انطلاقاً من قعر المدينة وقعر اللغة أو واجهة البلدات والمناطق مروراً بكلام الناس، الكبار والصغار، الشباب والشابات من خلال «التشات» و{الفايسبوك»، وصولاً الى المنابر والمنتديات الثقافية والسياسية والتظاهرات والأغاني المصورة ورواسب الانتدابات (العثمانية أو الفرنسية). وهو يستعد راهناً لإصدار كتابين هما «البيت في اللسان العربي»، و{لغة الشباب»، الأول يصدر في أميركا والثاني في بيروت بعد ثلاثة أشهر.


لنادر سراج والألسنية قصة تبدأ في جامعة السوربون الفرنسية ولا تنتهي في أحياء بيروت ولهجاتها المتنوّعة. يروي سراج (وهو أبن منطقة البسطة، ولا يتحدث اللهجة البسطاوية)، أنه حين أعلم عائلته بعد سفره الى فرنسا والتحاقة بجامعة السوربون بأنه سيدرس الألسنيات، لقي ترحيباً بارداً، فوالدته «أم الحسن» ضحكت قائلة: {هل ثمة إنسان يسافر الى فرنسا ليدرس اللهجة البيروتية»!! فالدكتوراه بالنسبة الى الناس العاديين تعني الطب قبل كل شيء، وما عدا ذلك يبدو مستغرباً، ربما لأن علم الألسنيات لم يكن مألوفاً.


على أن الألسنيات كانت بالنسبة الى سراج أشبه بالصدمة الإيجابية التي عشقها ولبّت له طموحه. وكان محظوظاً في أنه درس هذا المنهج على يد كبار الأساتذة في فرنسا، وفي خضم الحرب حمل «مسجلته» وأتى الى بيروت ليتعرف الى أصول لهجتها من خلال لسان أهلها، فالتقى بـ{المختار عيتاني» الذي يُعتبر «صيدة» ثمينة في هذا المجال، والذي أعطاه ما يشبه الحكاية للهجة البيروتية... من هنا بدأت رحلة سراج في البحث عن الألسنيات، ولم تغيّب في التسعينات أسواق صعدة باليمن وصاغتها من أبناء الطائفة اليهودية الذين درس سراج لغتهم وقارن بينها وبين مواطنيهم الصنعانيين من وجهة النظر الفونولوجية. بل أن رحلة البحث عن الألسنيات بدأت في حياة سراج الشخصية قبل الجامعية، فهو من خلال الاختلاط مع أبناء المناطق والطوائف الأخرى، بدأت تتراءى الى سمعه الفروقات اللغوية بين منطقة وأخرى والتي كانت «نواة» الكثير من دراساته اللاحقة.


نسأل سراج عن بداياته الثقافية، فيجيب: «نشأت على حبّ المطالعة، وتأسست على المجلات المصرية مثل «الهلال» و «المصور» و{آخر ساعة» و{سندباد»، وكنت أقرأ الصحف لجدي، أما المفارقات اللغوية فبدأت تتكون بالنسبة إلي من وراء الاختلاط والتعارف وعلى أشخاص من الجنوب والجبل والبقاع، ومن مختلف الطوائف. كان مكتب والدي في الوسط التجاري، هناك تعرفت الى المشهد الكوزمبولوتي للمدينة من خلال دبيب الحياة اليومية من حاملي السيف وسائقي سيارات الأجرة إلى الباعة الذين ينادون «فرح ولدك بليرة»، وبائع السوس السوري الأصل، وفرن نجمة الذي كان صاحبه جنوبياً، وبائع الألعاب اليهودي وطبيب الأسنان الأرمني. هذا الخليط السكاني كان بداية للتعرّف على بيروت المتعددة المنصهرة والمنفتحة على مختلف الثقافات والتي أحبها على هذا النحو غير محكومة من أحد».


وإذ يتحدث سراج عن اللهجات يشير الى مآخذه على بعض وسائل الإعلام التي تتطرق الى اللهجات في المسلسلات أو البرامج من منطلق شبه عنصري، وبرأيه فإن ابن البسطة يتحدث بلهجته ولا يمثّل، وهو يشير في هذا المجال الى ظاهرة أبو العبد البيروتي الذي كان «قبضاي» في أيام زمانه وحوّله بعض وسائل الإعلام والنكات الى سخرية تطال مجتمعه قبل شخصه.


يجمع سراج في أعماله بين الأصالة والحداثة، بين «لسان العرب» و{الفايسبوك» وهو يملك رؤية أقرب ما تكون الى «الجاحظية» الباحثة دائماً عن أدنى الحقائق وأدق التفاصيل وأبسط التعابير وسميت «العالم السفلي للغة».


يكتب سراج عن اللهجات ويلتقط جملاً كانت تُستعمل في مواخير بيروت مثل كلمة «أسفنجية» (تعني القواد)، أو يكتب عن المعنى الحقيقي لكلمة «واوا» التي غنتها النجمة هيفاء وهبي أو «واوا أح» لدومينيك حوراني وعن مصطلح «الطخ» في النسيج الفلسطيني.


يستمتع سراج بالبحث في دبيب اللغة في المعيوش اليوميي، من اللجهات المحلية التي تتراوح بين المد والكسر والفتح، الى كتاباته عن الشعارات في زمن التظاهرات، وهو يتذكر في هذا المجال مشاركته في تظاهرة في منطقة البسطة، عندما وقف مع زملائه ليستقبل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بإيقاعات ناصرية(نسبة الى جمال عبد الناصر)، آنذاك كان الشاعر عصام العبدالله مرفوعاً على الأكتاف، ملثماً بكوفية وهو ينادي بصوته الأجش «أميركا راس الحية»، وكان نبيل قليلات يهتف «هيك علمنا جمال». مثل هذه اللحظات لم تفارق بال سراج، بل أصبحت منطلقاً لمادة كرّسها في إحدى دراساته، إذ رصد أخيراً الشعارات والهتافات التي تمخّضت عنها الاعتصامات والتظاهرات في وسط بيروت بسبب الأزمة السياسية، من الأفرقاء كلهم الذين شاركوا في الحراك الشعبي، فكتب مدونة بما يقارب 900 شعار وهتاف، يدرس من خلالها مزاج الخطاب الاجتماعي ـ السياسي وعقليته.
الجيم


حين أصدر سراج كتابه «حوار اللغات» كان لافتاً بالنسبة الى النقاد دراسته حول الجيم وطرق لفظها، يرصد من خلال هذه الدراسة مجريات التطور الصوتي للجيم، والذي يفضي وفق أحوال وظروف متشابكة الى قيام ثلاثة بدائل معروفة هي «الجيم المصرية» و{الجيم الشامية» و{الجيم الفصيحة». التمرين في ذاته نموذج للباحث اللساني الذي يتحول الى تقني دؤوب ومتمرّس حينما ينصرف الى دراسة مسائل لسانية دقيقة مثل «جيمنا العربية».


قد يهرب المرء لدى سماع لفظ الجيم عند بعض الجماعات، لكن في القراءة متعة أخرى. يقول سراج: «الجيم التي نشأتُ وأنا أسمعها في محيطي العائلي والمديني وتعلمت تردادها باعتبارها تدخل في عداد المنظومة الفونولوجية للهجتي المدينية البيروتية، هي ما اصطلح على تسميته بالجيم الشامية. رخوة وخالية من الشدة، ومخرجها من وسط الحنك. في المقابل، ثمة تلفّظ آخر لها، تردد على مسامعي من أبناء البقاع عموماً، وبعلبك الهرمل تحديداً، وهو تلفظ معروف بالمبالغة في تعطيشه. أما الجيم القاهرية التي ألفنا سماعها في الأغاني والمسلسلات والأفلام المصرية والخطب الناصرية، فهي شديدة لا تشوبها الرخاوة، وتخلو من التعطيش، وتُلفظ من أقصى الحنك».


نادر سراج المفتون بأصول اللهجات، يحاول ألا يتأثر بصورة واحدة أو رؤية واحدة دائماً فالثنائيات كانت عنواناً في حياته، فهو الذي نشأ في شارع «سيدي حسن» في بيت تقليدي لبناني معروف بالحجر الرملي، وتزاوجت ثقافته العربية والإسلامية بثقافة فرنكوفونية لسانية، فضلاً عن الثقافات الشعبية، استوقفه الكمّ المصطلحي ذو الجذور العثمانية – التركية في اللغة العربية الذي يلوّن مفاصل الكلام السياسي إن بالألقاب المسبغة على العاملين فيه أو بالرتب العسكرية، أو بتسمية الوظائف الإدارية، أو بالتعليقات والانتقادات التي يتبادلها السياسيون وينقلها عنهم أو يروّجها الإعلاميون، ذلك كله جعله يتناول هذه المصطلحات في دراسة خاصة.


ولعل أبرز دراسة لسراج كانت بعنوان «خطاب الرشوة» والتي يبدو من خلالها وكأنه يلخّص المجتمع اللبناني، مجتمع «البحبوحة» الذي عرف بـ{البزنس» والفساد من زمن العثمانيين حتى الآن. هذا «البزنس» أنتج «ثقافة عجائبية» يدرسها سراج عبر إضاءة لغوية اجتماعية، ومن خلال معاينة منظومة متكاملة من الكنايات والتوصيفات وخطابات أفرقاء عملية الرشوة الثلاثة، الراشي والمرتشي والرائش، فضلاً عن باقة منتقاة من مأثوراتنا الشعبية التي بحثت في الرشوة وأخواتها.


نادر سراج المنشغل راهناً بكتابه حول «لغة الشباب» يعتبر «أن هذه اللغة تتميز عن اللغة المتداولة بين البالغين بإيجايبات عدة، فهي أكثر واقعية وغنى من اللغة الأساسية، التي تميل أكثر الى التجريد والوصف الموجّه، ثم أنها أشد اقتصادية وتبعث شعوراً بالارتياح، أكثر من اللغة المعقدة المتداولة بين البالغين. وهذه اللغة تعبّر عن المشاعر الشخصية بطريقة أفضل من اللغة الواقعية العادية، كذلك تسهم في تبسيط أجواء الحوارات، وذلك مردّه الى عدم وجود قواعد صارمة أو معقدة. لذا تُعتبر لغة مطواعة ومناسبة لسياقات النقاش والحوار.


نادر سراج اللغوي جعلنا نقرأ عن اللغة كما لو أننا نقرأ الحكاية.


**عن الجرية الكويتية



أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
انشر في تيليجرام
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر

مختارات
شاهد مصانع الارتقاء للبلاستيك - فيديو
صعدة برس - خاص
شاهد بالفيديو.. تفاصيل عملية "فجر الإنتصار" بمأرب
صعدة برس - وكالات
جرائم العدوان السعودي الأمريكي على اليمن خلال 2000 يوم "انفوجرافيك"
صعدة برس-متابعات
ست سنوات على العدوان على اليمن.. خسائر بالجملة
صعدة برس
شاهد.. ابشع مجزرة بحق 34 طفل و10 نساء بمنطقة صبر – صعدة
صعدة برس
ابشع مجزرة يرتكبها طيران العدوان السعودي في اليمن بحق معزين بالصالة الكبرى بصنعاء
صعدة برس
شاهد..جريمة قصف العدوان السعودي الأمريكي مديرية الجراحي جنوب الحديدة
صعدة برس
مشاهد مروعة لمجزرة طيران العدوان السعودي في مدينة يريم بإب
صعدة برس
شاهد..جرائم العدوان السعودي الامريكي في اليمن (حجة)
صعدة برس
شاهد..Saudi Arabia crimes in Yemen جرائم التحالف السعودي في اليمن
صعدة برس
شاهد..جرائم العدوان السعودي الامريكي في اليمن (حجة)
صعدة برس
جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(شبكة صعدة برس الإخبارية)