صعدة برس - *محمد رفعت الدومي
الخيانة كاسمها ، و الماضي لا يخذل أحداً ، و " خاير بك الجركسيّ " كان
أميراً من أمراء المماليك الجراكسة ، و كان آخر نائب لـ " حلب " تحت سلطة
هؤلاء ، و أول حاكم لـ " مصر " تحت سلطة الدولة العثمانية ، و كان ، و
هذا هو الأهم ، نتيجة لخيانة اقترفها في حق أستاذه ، السلطان " قانصوه
الغوري " ، أحد الأسباب المفصلية في اقتلاع دولة المماليك الجراكسة من
جذورها الأجنبية ، دولته الأم ، من أجل هذا ، ورد اسمه في كل وثائق تلك
المرحلة ، " خاين بك " ، و هنا ، نعثر علي إحدي الحقائق التي تفصح بوضوح
عن معدن المصريين الصحيح ، فإنهم ، علي الرغم من بشاعة عهد السلطان "
الغوري " ، و علي الرغم من إدراكهم التام أن المعركة بين المماليك و
العثمانيين لا تخصهم ، و لا ناقة لهم فيها و لا جمل ، ثاروا حفيظة
للأخلاقيِّ ، و جلدوا " خاير بك " بأقلامهم الحادة ، و بلا هوادة!
كانت أنباء قد وردت للسلطان " قانصوه الغورى " عن تحركات مريبة للسلطان "
سليم الأول " علي حدود الدولة الصفوية ، و أصبح في حكم المؤكد أنه عاقدٌ
العزم علي الدخول في حرب مع السلطان " إسماعيل الصفوي " ، حليفه الرخو ،
فانزعج " الغوري " من لهجة الغربان في تلك الأنباء ، و استشعر الخطر
القادم ، و أدرك أن السلطان " سليم الأول " إذا نجح في العصف بالدولة
الصفوية ، سوف يحدق النظر بقوة في الاستيلاء علي " مصر " و " الشام " ،
دولته!
و بوحي من إحساسه الجاد بالخطر حشد قواته ، و توجه علي رأسها إلي " حلب "
لملاقاته ، و هناك جعل " خاين بك " علي ميسرة جيشه ، دون أن يدور ببال
المسكين ، أن عصراً برمته تآكل ، و أن المعركة كانت قد انتهت بهزيمة
فاحشة لجيشه ، و بنهاية مزرية له هو شخصياً ، قبل حتي أن يلتحم الجيشان
علي الأرض!
كان السلطان " سليم الأول " قد استمال سراً إلي صفوفه " خاين بك " ، نائب
" حلب " ، و " حاجب حجاب " السلطان الغوري القديم من قبل ، و استمال إلي
جانبه أيضاً نائب " حماة " ، الأمير " جان بردي الغزالي " ، و الأخير ،
نجا ، لسبب غير مفهوم ، من تحريف اسمه في وثائق هذه المرحلة إلي " خان
بردي الغزالي " ، و لحسن الحظ ، لم يفت شئ بعد ، و " خان بردي الغزالي "
، قطع العثمانيون رأسه في النهاية!
حاول " خاين بك " بشتي الأساليب ، إجهاض عزم السلطان " الغوري " علي
ملاقاة العثمانيين في ذلك الوقت ، و إيهامه بأنهم أقل شأناً من تجاوز
حدود الدولة الصفوية إلي حدود دولته ، ليجد العثمانيون مساحة أكبر للحشد
و إعداد خطة المعركة ، و فشلت كلُّ مساعيه ، مع هذا ، لسوء حظ المصريين ،
كان التاريخ قد تهيأ لكتابة صفحة جديدة و فاقعة من حياتهم!
و في يوم الأحد " 24 " من شهر أغسطس عام " 1516م " التقي الجيشان في "
مرج دابق " بالقرب من مدينة " حلب "!
في البدايات ، كعادة البدايات علي الدوام ، كانت المعركة متزنة ، و فجأة
، انسحب " خاير بك " بقواته و انضم إلي الجيش العثماني بعد أن أطلق شائعة
تؤكد مقتل السلطان " الغوري " ، و تبعه قوادٌ آخرون ، فاتسعت ثغرات الجيش
المملوكيِّ ، و ملأ العثمانيون تلك الثغرات بكل سهولة ، و اختل اتزان
المعركة بشكل مروع ، و اتضحت في عيني " الغوري " نذر الهزيمة الساحقة ، و
لم يبق أمامه إلا الاستغاثة بـ " أولياء الله الصالحين " ، أهل المَدَدْ!
كان قد اصطحب معه عند خروجه للحرب ، كالعادة ، أئمة المذاهب الأربعة ، و
خليفة السيد " عبد القادر الجيلاني " و خليفة السيد " أحمد البدوي " و
خليفة السيد " ابراهيم الدسوقي " و خليفة السيد " أحمد الرفاعي " ، أقطاب
الدنيا الأربعة ، و حين ترهل المأزق ، أخذ يتوسل إليهم ، بلهجة لا تنم عن
رباطة جأش :
- يا أغوات ، هذا وقت الشدة ، وقت المروَّة ، قاتلوا و عليَّ رضاكم ..
- يا رجال الله ، هذا وقت الدعاء ، ادعوا و عليَّ رضاكم ..
و هؤلاء ، كانوا في ذلك الوقت في أشد الحاجة لمن يدعو لهم ، لقد كانت
أعمارُ كل هؤلاء أوشكت علي التآكل فعلاً ، و كانت نهايتهم أشد بشاعة من
نهايته هو!
بعد قليل من ذلك الوقت ، سقط " الغوري " صريعاً تحت أقدام الخيول و اختفت
جثته و لم يعثر له علي أثر ، و أترك الحديث عن نهاية " أولياء الله
الصالحين " لـ " ابن زنبل " ، و هو مؤرخ رأي من مكان أقرب علي كل حال ،
قال :
" و كان مع " الغوري " خلفاء المشايخ مثل سيدي " أحمد " و سيدي " عبد
القادر الجيلاني " و سيدي " ابراهيم الدسوقي " و أمثالهم ، فلما وقعت
الكرّة على " الغوري " بقيت المشايخ المذكورون بـ " حلب " ، فلما سمعوا
بأن السلطان " سليم " قادم على " حلب " خافوا من سطوته ، فأخذوا بالذهاب
إلى نحو " الشام " ، فلما رآهم على بعد ومعهم الرايات و الأعلام قال :
- ما هؤلاء؟!
قال :
- هؤلاء خلفا المشايخ كانوا جاءوا مع " الغوري " فلما كُسِر يريدون
الذهاب إلى " مصر " ..
فأمر بإحضارهم ، فلما مثلوا بين يديه أمر برمي رقابهم أجمعين"!
واقعة مشابهة و أقل عمراً ..
" أحمد عرابي " و رجاله أيضاً ، أنفقوا عشية معركة " التل الكبير " ، تلك
المعركة التي احتل بعدها الإنجليز " مصر " ، في حلقة ذكر ، يدعون الله أن
يرزقهم النصر علي الكفار ، و ظلوا يرددون حتي طلوع الشمس : " يا لطيف يا
لطيف " ، و بعد دقائق من بداية المعركة ، أصبح معظمهم في عداد القتلي أو
الأسري ، و فر " عرابي " مذعوراً ليستقل أول قطار يتحرك نحو " القاهرة "!
علي أية حال ، كان هناك أيضاً بطل حقيقي ولد من الرحم الصحيح لنفس
المعركة ، و جعل ، باستبساله ، هزيمة المصريين باهتة إلي حد معقول ، إنه
الأمير آلاي " محمد عبيد "!
و الشاعر الفارس " دريد بن الصمة " كان ، و متي؟ ، في الجاهلية الأولي ،
أكثر واقعية من كل هؤلاء ، و يوم معركة " حنين " ، حين أمر " مالك بن عوف
" باصطحاب الأموال و النساء إلي ساحة المعركة ، ليستميت رجاله في الدفاع
عن أموالهم و أعراضهم ، كما اعتقد ، قال له " دريد بن الصمة " موبخاً :
- راعي ضأن و الله ، و هل يرد المنهزم شئ؟ ، إنها إن كانت لك لم ينفعك
إلا رجل بسيفه و رمحه ، و إن كانت عليك فُضِحتَ في أهلك و مالك!
من الجدير بالذكر أن " الغوري " كان مولعاً بالمنجمين ، و في هذا الشأن ،
قال " ابن زنبل " :
" و من غريب صنع الله تعالى ، أن " الغوري " كان عنده رمّالاً جازماً ،
فكان كل حين يقول له : انظر من يلي الحكم بعدي ، فيقول : حرف سين ، وكان
السلطان يعتقد أنه " سيباي "، و كان كلما كتب " سيباي " للسلطان بما يفعل
" خاير بك " نائب " حلب " من الإثبات للسلطان " سليم " بأنه معه مُلاخي
على أبناء جنسه ، و يحرضه على المجيء إلى أخذ أرض " مصر " من السلاجقة و
السلطان " الغوري " لا يقبل من " سيباي " نصيحة!
الخيانة كاسمها ، و الخسة أيضاً كاسمها ..
و بقراءة متعجلة في تجاعيد هذه المعركة ، سوف نعثر علي حدث أشد بشاعة من
خيانة " خاير بك " ، حدث كاشف و موحي و محرض ، و يعكس حدثاً نشطاً في "
مصر " هذه الأيام!
قبل بداية معركة " مرج دابق " اقتحم جنود " الغوري " مدينة " حلب " ، و
انتهكوا حرمات أهلها ، و نهبوا أموالهم ، و اغتصبوا النساء تحت عيون
أزواجهن ، و تحت عيون أزواجهن و أبنائهن أحياناً ، ثم مضوا ، كانوا قد
تركوا خلفهم عدواً ، صنعوه ، لديه من أسباب النقمة الشاهقة عليهم ما لم
يكن لدي العثمانيين ، و لم يمض يوم و بعض اليوم ، و طارت طرق الغبار ، و
تهشم جيش " الغوري " ، و فرَّ الكثيرون من الذين نجوا مما قالت بنادق
العثمانيين إلي ناحية " حلب " ، و هناك ، كان في استقبالهم عدوٌّ أشد
خشونة!
لم يجدوا في قلوب الحلبيين ذرة من الرأفة ، و قتلوا منهم ما لا يحصي ، و
سحلوا آخرين ، و ألقوا بهم جميعاً في بالوعات التراث !
الاستهانة بالماضي حماقة ، و الخيانة كاسمها، و تعقيباً علي خيانة " خاير
بك " لسيده انهارت دولة العبيد ، و استبدلت " مصر " محتلاً بمحتل لا يقل
خسة ، و نفق " خاير بك " كما يليق بالخونة بعد عدة سنوات من معركة " مرج
دابق " ، و تجاهلته ذاكرة المصريين تماماَ ، ما عدا سكان شارع " باب
الوزير " ، فله هناك مسجدٌ شيده ، تقرباً إلي الله طبعاً ، بجوار مسجد "
آق سنقر " بمدينة " القاهرة " ، ما زال منتصباً ، و حياً..
|