صعدة برس - وكالات - بينما كان البحارة الروس والإنجليز يتنافسون على سبائك الذهب التي كانت تحملها تلك الغواصة الغارقة من مخلفات الحرب الباردة في “البحر الأسود”، في الفيلم الذي يعود إنتاجه إلى عام 2014 للمخرج الإنجليزي كيفين ماكدونالد، فإن الصراع على ذلك البحر لم يهدأ على مر التاريخ، قط بين الغرب وروسيا، التي تعتبره منطقة نفوذ خاص تحظى بأهمية جيوسياسية وفي ذات الوقت عازل أمني عن منافسيها الغربيين.
ويقع البحر الأسود على مفترق طرق مهم بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، إذ يحتل موقعاً استراتيجياً بين جنوب شرقي أوروبا، ويمتد إلى روسيا وجورجيا نحو آسيا، وتطل عليه أربع دول أخرى هي تركيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا، ويرتبط بالمحيط الأطلسي عبر البحر المتوسط، الذي يتصل به من طريق مضيق البوسفور وبحر مرمرة وبحر إيجه في الركن الجنوبي الغربي للبحر. كما يرتبط “البحر الأسود” شرقاً ببحر آزوف من طريق مضيق كيرتش، وإضافة إلى خطوط أنابيب النفط والغاز وكابلات الألياف الضوئية التي تمتد على طول قاع البحر، تمر مئات السفن على السطح حاملةً الأشخاص والبضائع يومياً.
القرم وتوترات عسكرية
اندلعت الشهر الماضي، مواجهة بين القوات الروسية ومدمرة بريطانية قبالة شبه جزيرة القرم، التي تحتلها روسيا منذ عام 2014. وقالت موسكو إنها أطلقت طلقات تحذيرية، وألقت قنابل في مسار مدمرة بريطانية اخترقت مياهها الإقليمية قبالة سواحل القرم، التي تقول بريطانيا ومعظم بلدان العالم إنها تابعة لأوكرانيا. ودافع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في أعقاب الحادث، عن الطريق البحري الذي كانت تسلكه المدمرة “ديفندر” التابعة للبحرية الملكية، قائلاً رداً على أسئلة محطات بريطانية، “لا نعترف بضم القرم، كان ذلك غير قانوني، وهذه مياه أوكرانية ومن الصائب تماماً استخدامها للتوجه من نقطة إلى نقطة أخرى”.
وجاءت الحادثة قبل أيام قليلة من بدء المناورات العسكرية “سي بريز 2021″، بين 28 يونيو (حزيران) الماضي، و10 يوليو (تموز) الحالي، بمشاركة الولايات المتحدة ودول أخرى من حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا في البحر الأسود، وهي المناورات التي أثارت اعتراض واستياء موسكو التي أجرت مناورات موازية في البحر الأسود وجنوب غربي روسيا، حيث تدربت الطائرات الحربية على عمليات قصف ونشر صواريخ دفاع جوي بعيدة المدى لحماية الساحل.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي، إن حادثة المدمرة البريطانية لم تكن لتثير صراعاً عالمياً حتى لو أغرقت روسيا السفينة، لأن الغرب يعلم أنه لا يمكنه الفوز في مثل هذه الحرب، ما يشير، بحسب وكالة “أسوشيتد برس”، إلى عزم بوتين على زيادة المخاطر في حال وقوع حادث مماثل مستقبلاً.
صراع تاريخي
وخاضت بعض الإمبراطوريات الكبرى في العالم لقرون معارك على البحر الأسود. فعلى مر التاريخ، أثبت أنه واحد من أكثر المواقع أهمية من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة أوراسيا الأوسع. ويقول مراقبون إن نهج روسيا في التعامل مع البحر الأسود يعتمد على تاريخ طويل من المواجهة مع القوى الكبرى في أوروبا وعلى التنافس الجيوسياسي مع تركيا. وتشمل أهدافها درء أي تهديد من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، سواء للأراضي الروسية نفسها أو معقلها الاستراتيجي في شبه جزيرة القرم. كما أنها تريد تقويض تماسك الحلف من خلال محاولة تأجيج الانقسامات بين أعضائه على طول البحر الأسود، ومنع أوكرانيا وجورجيا من الانضمام إليه.
وبحسب، الزميل الرفيع لدى مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، بول سترونسكي، فإن “موسكو ترى أن منطقة البحر الأسود حيوية لاستراتيجيتها الجغرافية الاقتصادية، لإظهار القوة والنفوذ الروسيَين في البحر المتوسط ، وحماية روابطها الاقتصادية والتجارية مع الأسواق الأوروبية الرئيسة، وجعل جنوب أوروبا أكثر اعتماداً على النفط والغاز من روسيا. كما تدرك روسيا جيداً احتمالية تدفق التوترات القادمة من الشرق الأوسط إلى الداخل لديها، لا سيما شمال وجنوب القوقاز، وتنظر إلى هذه الكتلة المائية باعتبارها منطقة أمنية عازلة مهمة، وتحميها من التقلبات التي يمكن أن تنبع من الجنوب. وأضاف سترونسكي أن “موسكو تعتمد على البحر الأسود للوصول إلى المياه الدافئة حيث البحر المتوسط وما وراءه، سواء للعمليات العسكرية خارج جوارها المباشر أو لتصدير السلع الروسية الرئيسة (الهيدروكربونات). وترى موسكو أن البحر المتوسط يسيطر عليه الناتو إلى حد كبير، لكنها تأمل في تحديد الفرص لتحقيق تعاون سياسي واقتصادي وعسكري مع الدول الإقليمية الرئيسة، كما فعلت في سوريا. على سبيل المثال، تتطلع روسيا إلى فرص لتوسيع نفوذها في دول البحر المتوسط مثل قبرص ومصر وإسرائيل وليبيا وتركيا”.
روسيا ودول الناتو
بالنسبة إلى دول الناتو، سواء في أوروبا أو لدولة تقع على بعد آلاف الأميال مثل الولايات المتحدة، فإن مراقبين يعتقدون أن البحر الأسود يمثل منطقة ذات أهمية قصوى. ويقول لوك كوفي، مدير مركز “دوغلاس أند سارة أليسون سنتر” للسياسة الخارجية لدى مؤسسة التراث، في واشنطن، إنه “بالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن الأهمية الاستراتيجية للبحر الأسود تنبع من قضيتين، أولاً التزام واشنطن بموجب معاهدة الناتو، إذ إن ثلاث دول من أصل ست تطل على البحر الأسود (تركيا وبلغاريا ورومانيا) هي أعضاء في الحلف، في حين تشارك دولتان أخريان (أوكرانيا وجورجيا) في برنامج الناتو للشراكة من أجل السلام، كما أن جورجيا تحديداً مرشح رسمي للانضمام للحلف.
وثانياً، تعتمد روسيا، أحد أكبر الخصوم الجيوسياسيين لأميركا، على منطقة البحر الأسود في مجالات الطاقة والتجارة والأمن والاقتصاد، ومن ثم لطالما اعتبرت هيمنتها على منطقة البحر الأسود مسألة بقاء وطني، وتستخدم روسيا أيضاً قواعدها في البحر الأسود، التي يقع كثير منها في شبه جزيرة القرم، لشن عمليات عسكرية أبعد من ذلك، في سوريا مثلاً.
وتجدر الإشارة إلى أن القرم ليست الاحتلال الروسي الوحيد على طول شواطئ البحر الأسود، فمنذ الغزو الروسي لجورجيا عام 2008، تحتفظ موسكو بوجود عسكري كبير في منطقة أبخازيا الجورجية (حوالى 4000 جندي)، التي تمتد لمئات الأميال من الساحل على البحر الأسود.
لكن لنفس هذه الأسباب التي يذكرها كوفي، فإن موسكو تبرر حروبها مع جورجيا وأوكرانيا على أنها ضرورية لمنع التوازن الاستراتيجي من التحول بشكل حاسم لصالح الناتو (إذا حاول أي من البلدين الانضمام إلى التحالف الغربي)، وإخافة الدول السوفياتية السابقة الأخرى حتى من التفكير في التحالف الوثيق مع الغرب. ويقول سترونسكي إن الموقف الروسي ضد جورجيا وأوكرانيا أظهر استعداد موسكو لاستخدام الحرب النشطة لمنع أي دولة سوفياتية سابقة أخرى (خارج دول البلطيق، التي انضمت إلى الناتو في عام 2004) من الانضمام رسمياً إلى الحلف، حتى لو كانت عضوية الناتو لا تزال بعيدة الاحتمال بالنسبة إلى جورجيا وأوكرانيا في الوقت الذي خاضت فيه روسيا الحرب معهما.
اتفاقية مونترو
تُقيّد اتفاقية مونترو لعام 1936 وجود الدول غير المطلة على البحر الأسود، إذ منحت الاتفاقية تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل، ووضعت قيوداً على عدد ووقت عبور ووزن السفن التابعة لبحرية الدول غير المطلة على البحر الأسود. فعلى سبيل المثال، وفقاً للاتفاقية، يجب ألا يزيد حجم السفن الحربية التابعة للدول غير المطلة على البحر الأسود في المضيق على 15000 طن، ولا يجوز عبور أكثر من تسع سفن حربية تابعة لدول غير البحر الأسود، بإجمالي حمولة 30 ألف طن، في أي وقت، ويُسمح لها بالبقاء في البحر الأسود لمدة لا تزيد على 21 يوماً، ما يضع قيوداً على عمليات كل من البحرية الأميركية وأعضاء الناتو من غير دول البحر الأسود.
ويقول بوريس توكاس، الزميل الزائر لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في واشنطن، إنه في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما اندلعت التوترات بين الاتحاد السوفياتي وتركيا، ضغطت موسكو على أنقرة لإعادة التفاوض بشأن اتفاقية مونترو حتى يتمكن السوفيات من تقاسم السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل مع تركيا، وزاد الاتحاد السوفياتي من وجوده العسكري في البحر الأسود وضغط على الحكومة التركية لقبول مطالبتها بقواعد عسكرية على الأراضي التركية، في ما يُعرف باسم “أزمة المضائق التركية” عام 1946.
لكن في محاولة لحماية نفسها من الضغط السوفياتي، طلبت تركيا المساعدة من الولايات المتحدة التي ردت بإرسال سفن حربية أميركية إلى المنطقة. وعلى الرغم من تراجع الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف، إلا أن الحادث كان أحد العوامل المحفزة لعقيدة ترومان عام 1947، التي سعت إلى احتواء التهديد السوفياتي المتزايد في البحر المتوسط من خلال ضم كل من تركيا واليونان كأعضاء في الناتو بحلول عام 1952. وطوال الحرب الباردة، شهدت المنطقة توازناً غير مستقر بين تركيا وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لكن منذ عام 1976، سمحت تركيا لحاملات الطائرات السوفياتية المبنية في أوكرانيا (فئة كييف ، ثم فئة كوزنتسوف) بالمرور عبر المضايق.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، كانت منطقة البحر الأسود أقل أهمية من الناحية الجيوستراتيجية من منظور غربي، لكنها ظلت فعالة في تشكيل مفهوم روسيا عن “الخارج القريب”. وكانت أهم قضية استراتيجية بعد نهاية الحرب الباردة هي إزالة الأسلحة النووية من أوكرانيا، التي تم تلخيصها في مذكرة بودابست عام 1994 التي وافقت فيها أوكرانيا على إزالة أسلحتها النووية مقابل ضمانات أمنية من قبل روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة (بدعم من فرنسا والصين) لحماية وحدة أراضيها. لكن ظلت القرم ورقة مساومة مستمرة بين موسكو وكييف، حيث احتفظت الأولى بالبنية التحتية العسكرية، لا سيما قاعدة في سيفاستوبول التي كانت ضرورية لعملياتها في البحر الأسود. وبموجب معاهدة الصداقة الأوكرانية – الروسية لعام 1997، تستأجر موسكو قاعدة سيفاستوبول لمدة 20 سنة، تم تمديدها في عام 2010، حتى عام 2042.
استراتيجية فعالة
في ظل النفوذ الروسي المتزايد والمتشدد على البحر الأسود، يشير مراقبون إلى أن موسكو ستسعى إلى تنسيق مزيد من التقارب مع تركيا لكسب مزيد من النفوذ على المضايق التركية. ويقول توكاس إنه “بالنسبة إلى روسيا، لم تتغير العوامل الجيوستراتيجية لمنطقة البحر الأسود منذ عام 1853، حيث حل الناتو والولايات المتحدة مكان الدول الأوروبية الفردية كمنافسين جيوسياسيين رئيسين لها، ومن ثم أصبحت القرم هي المصدر العسكري، وتركيا هي المحور، والمضايق التركية هي الإنتاجية الاستراتيجية والهدف النهائي هو الوصول إلى شرق البحر المتوسط والوجود العسكري فيه كقوة موازية لتوسع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي شرقاً ووجودهما في بحر إيجة ووسط البحر المتوسط”.
وفيما يعد هذا الوضع بمثابة تحدٍ لدول الناتو، يرى المراقبون الأميركيون ضرورة قصوى في أن يطور الحلف استراتيجية أكثر قوة تجاه روسيا، وطرقاً مجدية للعمل مع الدول المطلة على البحر الأسود لتحسين الأمن الإقليمي. فعلى سبيل المثال يوصى كوفي، أنه يجب على الولايات المتحدة أن تشجع الناتو على إنشاء مهمة دورية بحرية في البحر الأسود على غرار مهمة الشرطة الجوية “الناجحة” في بحر البلطيق، ذلك من أجل الحفاظ على وجود قوي لحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود بما يتماشى مع اتفاقية مونترو، بحيث يتم ذلك من خلال الحلفاء غير المنتمين إلى الناتو ممن يطلون على البحر الأسود .
المادة الصحفية تم اخذها من الاندبندنت |